اكثر من خمسين عاما مرت على سكان “خان العسكر” وهم يعيشون في غرفه، غرف متلاصقة بعضها بالبعض الاخر.. الجدران تتآكلها العفونة.. والمياه الاسنة تتسرب في كل مكان.. غرف عددها بالعشرات عاش فيها آلاف من العائلات.. الغرفة الواحدة مساحتها لا تتجاوز 2.60م أما سقفها فيتزين بالقناطر الحجرية..
بات الخان مع مرور السنوات مملوكا لنزلاء الخان الذي آواهم يوم عصف بهم الطوفان وكان المأوى الوحيد لهم انذاك.
يوجد اليوم في “خان العسكر” 63 عائلة تم نقل 43 عائلة الى المبنين (أ.ب) القريبين من الخان على ان يتم نقل باقي العائلات بعد تجهيز مبنى (ج).
الخان مؤلف من ثلاثة أقسام وينتمي الى ثلاثة عصور كما كتب فوق الباب الشرقي للخان: “صليبية، مملوكية وعثمانية” والتاريخ المدون عليها عام ” 1852م في عهد السلطان عبد المجيد”. واشتهرت هذه الخانات بتجارة الفخار والحرير اضافة الى بضائع فاخرة وكانت تصدر مباشرة الى أوروبا وبلاد فارس.
وذكر المؤرخون أن هذا البناء استخدمه المماليك كثكنة للجيش المملوكي لذلك اطلق عليه اسم “خان العسكر”. مساحته 4000 كلم مربع. سكن الخان أكثر من ستين عائلة بعد طوفان “نهر ابو علي” عام 1956 وعمل قاطنوه فيما بعد على تملك الخان فتصرفوا بمحتوياته ومنهم من قام بتشييد الجدران ووضع خشبيات داخل الغرف لمنع تسرب الرطوبة حتى وصل الخان الى حالة مزرية يحتاج الى عشرات السنين ليعود الى ما كان عليه. كذلك عمد سكان الخان الى تأجير معظم الغرف وكأنها حكماً باتت ملكا لهم، واليوم يطالبون بالتعويض لاخلاء الخان نهائيا.
مع الاشارة الى ان سكان مخيمي نهر البارد والبداوي سكنوه فترة من الزمن قبل انتقالهم الى المخيمات.
مرت سنوات وعشرات العائلات الفقيرة تسكن الخان مما حال دون تمكن السواح من الدخول اليه، خاصة وأن هذه العائلات عاشت فيه دون المستوى المطلوب للعيش الكريم فالخان بني منذ الوف السنين ويحتاج الى اعادة تأهيل وترميم ليصبح جاهزا للسكن كذلك اهمال العائلات فيه وعدم الاعتناء بالمحتويات حيث قام عدد من الاهالي بانشاء شبكة صرف مياه المجاري بطريقة ظاهرة ومكشوفة مما زاد حال الخان سوءا من انبعاث روائح كريهة الى انعدام النظافة لدى نزلائه.. اضافة الى قيام عدد من نزلائه لدى تركهم الخان تكسير وتحطيم الابواب والقساطل بغية بيعها والاستفادة من ثمنها..
وكان لا بد لاستكمال مشروع الارث الثقافي في المدينة العمل على اخلاء كافة العائلات خاصة وان البنك الدولي كان شرطه استلام الخان فارغا للمباشرة بالتأهيل، فخصص البنك الدولي مبلغ قيمته 20 مليون دولار. وبعد مرور أكثر من سنتين على قرار الاخلاء اعلن رئيس بلدية طرابلس رشيد جمالي نقل العائلات الى مبان جديدة أنشئت خصيصاً لهم.
“البناء”زارت خان العسكر واطلعت على احوال العائلات التي تنتظر دورها في الانتقال الى مبنى (ج) وسألتهم عن استعداداتهم:
عايدة محمود بدرا تعيش مع عائلاتها المؤلفة من 5 أشخاص، تعيش في الخان منذ أكثر من 15 عاما، يعمل زوجها في بيع أوراق اليانصيب ويوميته لا تزيد عن عشرة الاف ليرة. مسكنها في الخان غرفة واحدة مع مطبخ وحمام صغيرين تستعد للانتقال الى المسكن الجديد المؤلف من ثلاث غرف اضافة الى حمام ومطبخ وشرفة تطل على الشارع العام عدا عن الممرات الواسعة بين الغرف وتقول ان المشكلة الوحيدة: “هنا لا ندفع الاجار ولا فواتير كهرباء ولا مياه اما هناك، علينا دفع اجار المنزل وفاتورة الكهرباء وتأمين المياه وعمل زوجي بالكاد يوفر لنا طعامنا، لذلك الفرحة ناقصة”. كذلك تخشى بدرا من المجهول فهي تقول “قالوا لنا ان عقد الاجار مدته ثلاث سنوات وبعد ذلك يتم التجديد، لكن من يضمن لنا هذا الكلام؟؟”.. اضافت: “سنفتقد كثيرا الى الخان حيث كانت جمعتنا وجيراننا كل يوم خاصة عند الصباح، لكن حاجتنا الى منزل نشعر فيه بالامان خفف عنا التفكير في المجهول”.
ومواطنة أخرى تعتبر انتقالها من الخان كأنها تنتزع عنها هويتها، تقول: صحيح اننا سننتقل سوية الا انه سيصبح لكل عائلة خصوصية بعد ان كنا جميعا عائلة واحدة، عشت اياما حلوة واتمنى ان تكون نفسها هناك فنحن نعيش حياة هادئة هنا، حيث لا ضرائب ولا فواتير تتوجب علينا، لان البلدية عفت كل سكان الخان من كل الضرائب المستحقة، والحياة الجديدة التي تنتظرنا نجهلها كليا.
بعد ذلك توجهت “البناء” الى سكان الخان السابقين للاطلاع على احوالهم والتغيرات الجديدة التي طرأت على حياتهم بعد ترك الخان:
ضحى مصطفى المحمود ولدت في الخان منذ اكثر من 45 سنة انتقلت مؤخرا الى مبنى (أ) لديها سبعة اولاد، يعمل زوجها بائع متجول ويجني في اليوم الواحد حوالي 10 الاف ليرة، وتعتبر ان هذا المبلغ لا يكفي عائلاتها ثمن الخبز، وبسبب هذه الضائقة لم تستطع ارسالها اولادها حتى الى المدارس الرسمية، فهم في المنزل لا يعملون اكبرهم البنت وعمرها حوالي 15 سنة. وعن انتقالها الى السكن الجديد قالت: “هنا افضل بكثير، هناك في الخان كل الامراض تعرضنا لها بسبب الرطوبة المنتشرة عدا عن التشققات في الجدران وغياب الشمس عن الغرف، كنا نعيش في غرف واحدة مساحتها 4 امتار، وكان الحمام والمطبخ مشترك بيننا وبين باقي العائلات، كنا نشعر احيانا بالاختناق.. اما اليوم اختلفت الحياة، نحن نعيش في بيت مؤلف من خمس غرف عدا عن المنتفعات من مطبخ وحمامين وشرفة اضافة الى مدخل البناية والبراح الواسع المخصص للاطفال وقريبا ستنشأ البلدية لنا امام المجمعات حديقة واسعة. حصلنا على ما كنا نحلم فيه. نعم تحقق حلمنا. ولن نفكر في العودة الى الخان ابدا…
علي محمد محي الدين عاش طفولته وترعرع في الخان منذ اكثر من ستين عاما ويعتبر الخان جزء من طفولته وحياته ويفضل العودة والعيش هناك حيث ترك خلفه ذكرياته وراءه وان المال الدنيا كله لا يعوضه ما فقده، واعتبر ان غرفته في الخان كانت مليئة بالرطوبة لكنها افضل من هذا السكن البازاري. وقال: “الخان هو بيتي الحقيقي فيه كل ذكرياتي مع اهلي وعائلتي، رغم كل المعاناة التي عانيناها الا ان الخان يشعرنا بالدفء اما هنا فلا”. ولفت الى ان حسنات البيت الجديد هي انه خفف من المشاكل الزوجية، هناك في الخان يوميا كانت المشاكل بين الازواج بسبب الضائقة الاقتصادية، هنا اختلف الحال، المشاكل لم تنته لكنها انحصرت بين المعنيين لان البيوت الجديدة تفصل العائلات عن بعضها وتبعدهم عن مشاكل بعضهم. وتمنى على جميع سكان الخان اعتبار زوجاتهم رفيقة دربهم الطويل وان يعاملوها بالحسنى لانها تستحق ذلك خاصة وانها حرمت من حقوقها الكثيرة بسبب وضع الازواج المزري.
طارق السيد قال ان الانتقال من الخان الى هنا أفضل، “لكن لا نشعر اننا في بيوت ملكا لنا فالبلدية تمنعنا من التصرف بحرية داخل منزلنا، منعتنا من تعليق المسامير ومن تركيب منشر للغسيل وغيرها من الامور التي تشعرنا وكأننا تحت ابراج مراقبة كل حركاتنا وخطواتنا محسوبة علينا”.
ورأى ان البلدية لم تكن منصفة ولا عادلة في توزيع البيوت لانها قامت باعطاء بيوت تتألف من خمس غرف لعائلة مكونة من 5 اشخاص وبيت مؤلف من غرفتين لعائلة مكونة من 7 اشخاص، وتساءل: أين العدل في هذا الموضوع؟؟!..
عزيزة موصللي تتألف عائلتها من 7 اشخاص انتقلت مؤخرا لتعيش في بيت جديد مؤلف من 4 غرف تقول: “سابقا كنا نعيش في غرفة واحدة، اما هنا فالبيت واسع، نشعر أننا نعيش في حلم، ولن نعود الى هناك ابدا، وبرأيي حصلنا على اكثر ما نستأهل. ومنذ وصولنا واولادي يركضون في المنزل من غرفة الى غرفة غير مصدقين انه بات منزلهم. عدا عن ان البلدية منذ وصولنا وهي تؤمن لنا كل ما نحتاجه من مياه وادوات صحية وغيره..
يوسف ملك مندوب من البلدية والمسؤول عن نقل العائلات الى المباني الجديدة أكد أن سكان الخان انتقلوا من الجحيم الى النعيم، في الخان كانت كل عائلة مؤلفة من 10 اشخاص تسكن غرفة واحدة والغرف متلاصقة ببعضها البعض الى درجة ان الحوارات العائلية يعرفها الجميع، وهذا ما لا تسمح فيه لا الاديان ولا الاخلاق ولا الانسانية.
واعتبر ان المدينة تتحمل مسؤولية اخلاقية وجزائية لانها سمحت ان تعيش العائلات فوق بعضها البعض. اضاف: اما المباني التي انتقل اليها جزء من نزلاء الخان تتمتع بكل المواصفات المطلوبة للعيش بهدوء حتى الاطفائية مؤمنة لهم في المنازل، علما ان طرابلس بأكملها لا يوجد في منازلها اطفائية والشقق تعتبر من الدرجة الاولى، عدا عن قيام البنك الدولي بتقديم كل احتياجات العائلات.
ولفت ملك الى ان من كان يشفق عليهم في السابق سيأتي اليوم الذي يحسدهم فيه ويقول “يا ريتني من سكان خان العسكر”.
واوضح لمن يتملكه الخوف من المستقبل بالقول: “ذكرنا مرات ومرات ان هذه المباني هي حصرا لسكان الخان، لكن اسلوبنا لم يعجبهم، هم ارادوا صرف تعويضات قيمتها تتراوح 20مليون ليرة، لكن لو فعلت البلدية ما ارادوه فان المشكلة لن تنتهي، لان الاهالي لن يجدوا بيوتا للسكن بهذه القيمة وحرصا عليهم وعلى عدم صرف تعويضاتهم في غير محلها قررت البلدية ان تكون المباني السكنية هي التعويض، علما ان نزلاء الخان الحاليين هم ليسوا من العائلات التي تعرضت للطوفان، فهؤلاء تركوا الخان، والحاليين استاجروا منهم الغرف التي خصصتها لهم الحكومة اللبنانية انذاك!!.. اضاف: كل شيء مؤمن في المساكن الجديدة من كهرباء ومياه، فالبلدية أمنت لكل بيت اشتراك دائم بالكهرباء ما يعادل 5 امبير، وذلك بانتظار وصول الشبكة الرسمية وتقديم طلبات على ساعات الكهرباء.
وبالنسبة للعقود الاستثمارية التي يعترض عليها نزلاء الخان قال: نحن مؤسسة رسمية، ونحن مع القانون، ولا نقبل ان نفصل للعائلات قانون على مقياسهم، طالما ان القانون العام حدد الاستثمار 3 سنوات، وحكما بعد انتهائها تجدد تلقائيا. واضاف: حددنا سعر المتر 500 ليرة، بذلك يكون اجار اكبر شقة سكنية 400 الف ليرة سنويا، وهناك بيوتا قيمتها تترواح ما بين 90 الف و100 الف ليرة سنويا، وهذه الاموال ستخصص للصيانة. اضافة الى تشكيل لجنة دعم تتابع العائلات باستمرار وتشكيل لجان طبية، اي ان البلدية ستتابع شؤون العائلات على مدار السنة.
وعن موضوع توزيع البيوت على العائلات بدون انصاف قال: بداية اعتمدت البلدية على تسجيل العائلات كل حسب اخراج قيده العائلي لكن الامر لم ينته هنا، فبعد فترة ستقوم مجددا على اعادة ترتيب البيوت والنظر في عدد الاشخاص والبيوت التي كانت من نصيبها.
وختم: ارتأت البلدية ان صرف التعويضات المالية ليس الحل، لذلك كان لا بد من وضع خطة “ايواء بايواء” وذلك تجنبا لمآسي اجتماعية جديدة البلدية والحكومة في غنى عنها، علما ان هذه الخطة كلفتها اكبر من صرف الاموال وتجنبا من الوقوع في اخطاء وقعت البلدية فيها مع سكان الخان الاصليين عندما قاموا ببيع مساكنهم الى سكان جدد قررت عدم تسجيل المساكن الجديدة باسماء العائلات لكن هذه البيوت ستكون ملكا لهم يتوارثونها من جيل الى جيل لكن لا يستطعيون بيعها ابدا.
تحقيق دموع الاسمر