الدكتور مصطفى عبد الفتاح
فكرت كثيراً في اختياري لهذا العنوان، لأنني لا أريد أن أكون ظاً في اختيار الكلمات، ولا أريد أن أكون هشاً
أيضاً! فلقد أثارت حفيظتي قضية مذكرة التوقيف الدولية بحق الرئيس السوداني، ودفعتني ثورتي إلى مناقشة الموضوع بشكل علمي مبني على المنطق الإنساني، لأن الرئيس السوداني ليس قريباً لي وليس نسبياً! وهو يشبه الكثير من الرؤساء والملوك في طريقته في حكم بلاده! وبما أنني لست مواطناً سودانياً، فلا يحق لي أن أتناول أسلوبه في حكم السودان. وإنما يحق لي أن أتساءل وبإلحاح نفسي كبير عن أسباب مذكرة توقيفه، وعن دوافعها، وعن النتائج التي أرادها القضاء الدولي من تلك المذكرة
أجل، لماذا ذلك القضاء الإستسابي؟ هل أصيب العالم كله، من سياسيين واجتماعيين، وقضائيين بالعمى إزاء ما يجري في
العراق وفلسطين، وما جرى في لبنان، من إجرام لم يسبق أن شهد التاريخ مثيلاً له؟
هل إن إحراق الأحياء وقتل ما يزيد عن مليون مدني في العراق لا يستحق وقفة من القضاء الدولي؟ أم أن إبادة أهل غزة أمر مشروع؟ أم أن الجرائم الصهيونية في فلسطين ومحيطها منذ ما قبل النكبة في عم 1948، ووصولاً إلى يومنا هذا لا يدخل في تصنيف القضاء الدولي للجريمة؟
إن ما ارتكبته الإدارة الأميركية السابقة للتنسيق التام مع الكيان الصهيوني يفوق الخيال الإنساني في مقاربته لعملية الإبادة البشرية، ويفوق وصف الجريمة، ويفوق كل ما ورد في التاريخ من وصفٍ للجريمة الرسمية المنظمة وللإرهاب الرسمي تحت اسم محاربة الإرهاب.
لم يرد إطلاقاً في حكايات ابن المقفع ولا في حكايات أحمد شوقي ما يشبه ما ارتكبته الإدارة الأميركية والكيان الصهيوني بحق الإنسانية وبحق العدالة وبحق الحضارة وبحق الحياة!
وبعد ذلك تطالعنا محكمة العدل الدولية بمذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني، وكأنه هو الذي ارتكب ما ارتكبته الدول القائمة على العدالة الدولية!
من هنا سألت نفسي: ماذا يعني ذلك؟ وإلى ماذا يرمي ذلك؟ إنه الظلم الذي تقوم على أساسه الجريمة، وإنه التشويه الفعلي لمبدأ العدل، ولهدف القضاء!
إنه ترهيب للضعفاء، وتحفيز للأقوياء! إنه أسلوب تعمية البصائر قبل البصر، الانتقام ممن يتجرأ ويقول لا للقوي!
هكذا كانت تحكى الحكايات عن أصحاب النفوذ في القرون الوسطى ووصولاً إلى النصف الأول من القرن العشرين، حيث كان الإقطاعيون أصحاب سلطة مطلقة، لا يمنعهم أحد من إلحاق الأذى بمن يقول لا لهم، أو لأبنائهم، أو لسياساتهم!
أما الآن وبعد أن فقد الإقطاع مبرر وجود، تحولت قوته إلى الإقطاع العالمي الذي يريد أن يحول العالم إلى سوق استهلاكية تستهلك ما ينتجه هو، وتأتمر بما يأمره هو، فيتحول العالم إلى ما يشبه العامل الذي أجبرته الظروف أن يعمل مقابل ما يسد الرمق، لتصبح المقارنة مع الفلاحين الذين كانوا يعملون عند الإقطاع القديم غير صحيحة، لأن الفلاحين كانوا يعملون مقابل شيء ما من الأجر، أما العالم الذي أراده الإقطاع الدولي أن يعمل لأجله، إنما يعمل بالحد الأدنى الإنساني فقط، وإذا ما راودته نفسه على أن يقول لا، فمصيره الموت المحتم!
أجل هذا ما تنمّ عنه مذكرة توقيف الرئيس السوداني، وليس لها أي لعد آخر. إنه قرار القوي، وقرار الإقطاع الدولي، وقرار الانتقام ممن يقول لا!
هذا ما أجبت به عن تساؤلي عن مذكرة توقيف الرئيس السوداني، فأقنعت نفسي بأننا مستهدفون في كراماتنا وفي أخلاقياتنا، وفي حضارتنا، وفي إنسانيتنا، لأن الإقطاع الدول لا يحتما أبداً أن يكون في العالم من هو أعرق منه ومن لا يقبل بالذل والمهانة، أو من يرفض التبعية الكاملة، أو من تأبى نفسه أن يكون إلاّ هو كما هو..!