تحقيق شفيقة عبد الرحمن
تقع مدينة طرابلس شمالي لبنان على بعد نحو 80 كلمترا من العاصمة بيروت وقد أسسها الفينيقيون قبل الميلاد بخمسة عشر قرنا. تعاقبت عليها الأمم والعهود منذ تلك الحقبة حتى القرن العشرين بعد الميلاد حيث كانت شاهدا على الانتداب الفرنسي مرورا بالعثمانيين والمماليك والإفرنج والرومان.
وتعتبر المدينة الأولى بثروتها التراثية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط وهي الثانية بمعالمها الأثرية المملوكية والبيزنطية والأثار الفاطمية والصليبية والعمارة المملوكية العثمانية. مدينة متكاملة بأحيائها وأسواقها ومعالمها التي تنتشر في الأزقة القديمة للمدينة وتضم أكثر من 160 معلما أثريا يحتار المرء في وصف الأجمل منها ومن أبرز هذه المعالم الحمامات التي شيدت خلال حكم المماليك 1517 – 1250 وهي تعرف الآن بالحمامات التركية لأن الأتراك عمدوا على تبني هذه الفكرة وتم تطويرها ونشرها في المنطقة أيام حكمهم وهي أقيمت أصلا بحاجة النظافة والطهارة وفقا للشريعة الإسلامية بسبب قلة المياه الواصلة إلى البيوت حينها.
وقد ارتبط دور الحمام بالخانات فكان مكملا لها حيث كانت قوافل التجار والمسافرين تتخذ منها محطات إستراحة مثل فنادق اليوم وكانت تقدم فيها الخدمات المختلفة للمقيم.
حمامات طرابلس
شهدت طرابلس في تلك الفترة نهضة عمرانية ثراثية تميزت بانشاء الحمامات التي كان لها دورا رياديا لمختلف شرائح المجتمع، وشيدت من قبل المماليك قبل مئات السنين وهي معالم اثرية مهملة انتشرت بسرعة في معظم الدول العربية والغربية لتصبح جزءا من الحضارة الشرقية ومن أبرز المدن اللبنانية التي تميزت بالحمامات صيدا، بيروت وطرابلس الا ان هذه الابنية التاريخية تعاني اليوم الاهمال والنسيان.
حمام العبد
الحمام بني بشكل يسمح للمرء بالاستحمام لوحده او مع مجموعة في المجتمعات لاسيما الاغريقية و الرومانية و كان يعتبر عنصرا اساسيا للصحة و الراحة اما في مدن الشرق فيعتبر عامل رفاهية، ويقسم الحمام الى ثلاثة اقسام: الاول يعرف “بالجواني” و هو الاكثر عمقا في الحمام و يتألف من غرفة ” السونا” و من غرفتين للتبليل، اما القسم الثاني فهو “الوسطاني” اما القسم الثالث فيعرف “بالبراني”، وتحدث عن هذا الموضوع باسهاب في كتابه “تاريخ طرابلس” العالم الاثري الدكتور عمر التدمري وفي لمحة سريعة عن هذه الحمامات التي لم يبق يعمل منها في الوقت الراهن سوى حمام واحد وهو حمام العبد.
1-حمام النزهه: الذي جرفه طوفان نهر ابو علي عام 1956 ولم يسلم منه الا بعض الحجارة.
2-حمام القاضي بني عام 1340 وقد تم هدمه لاحقا دون معرفة تاريخ هدمه و الاسباب.
3-حمام العطار : نسب إلى ناصر الدين العطار ولم يبق منه سوى واجهته الغربية.
4-حمام الحاجب: بني بين عام “1322و عام 1332” ولا تزال آثاره ظاهرة على الضفة الشرقية لنهر أبو علي.
5-حمام عز الدين: بناه نائب السلطنة عز الدين أيبك الموصلي المنصوري بين العامين 1326 – 1330 ويعتبر من أشهر حمامات طرابلس وظل يعمل حتى الثمانينات ويذكر التدمري في كتابه أنه أقيم على أنقاض كنيسة لاتينية حيث تظهر بعض الكتابات والنقوش اللاتينية عند مدخله الرئيسي وقد جرى ترميمه أخيرا بصورة متطورة مع الحفاظ على تاريخه الاثري.
6- حمام النوري المملوكي: يقع بالقرب من الجامع المنصوري الكبير، بناه الامير سنجر عبد الله النوري سنة 1310.
7- حمام الدردار : بني عام 1700 ويعتبر من أجمل حمامات طرابلس من ناحية الهندسة وسعة داره.
8- حمام الحديد أو(القراقيش): وكان يعرف بحمام الباشا أو حمام العظم نسبة إلى بانيه أسعد باشا العظم سنة 1740 ويمتاز ببوابته العالية المزخرفة و النقوش الموجودة على جدرانه.
9- حمام الطوافيه الذي لم يبق منه شيء.
10- حمام القلعة لم يذكر اي تفاصيل عنه في مرجع تحدث عن الحمامات.
11- الحمام الكبير يقع بالقرب من الجامع الكبير في مدينة الميناء.
12- حمام العبد يعتبر الأهم والابرز لانه الشاهد الوحيد الذي يعمل في الوقت الحاضر و يستقبل أهالي المدينة والسواح الذين يقضون اوقاتا طويلة في ارجائه، ويعود تاريخ إنشائه إلى العام 1708 ويتشارك مع باقي الحمامات باستقبال الزوار والسواح للتعرف على تاريخها وهندستها ويستعيد فيه أبناء طرابلس ذكريات مجد غابر، أما سبب تسميته بحمام العبد تقول الروايه أن أحد المقربين من الباشا آنذاك وهو من آل السلطي قد قتل وشهد على عملية القتل خادم الباشا وهو من الجالية الافريقة فهرب الى الحمام خوفا من القتلة الا انهم علموا بأمره وأردوه على عتبة الحمام ومنذ تلك الحقبة سمي بحمام العبد نسبة الى الخادم الزنجي.
يقع الحمام بالقرب من خان الصابون في سوق الصاغة داخل الاسواق القديمة حيث يتفرع عن السوق بممر طول 15 مترا، و لحظة اقترابك من الحمام تشعر بالدفء و الجو العابق وتشاهد سحاب من البخار تجوب المنطقة فضلا عن روائح الصابون العطرة المتسربة من الداخل ليتخيل للزائر انه في حديقة زهور تفوح منها كافة الروائح التي تنعش النفس وعند دخولك عتبة الحمام ترى لوحات تحكي عن عصور مرت على هذه المدينة تزينها جدرانه مزخرفة و قناطر تتدلة منه مصابيح قديمة و موسيقى طبيعية تبثها المياه المتسربة من بركة تتوسط القاعة الاساسية للحمام و تعرف “بالبرانية” التي يجالسها عدد رواد الحمام والجالسين على مقاعد طويلة مفروشة بالوسائد والأقمشة الملونة ذات طابع شرقي وثمة صدر نحاسي كبير يتضمن مصبات القهوة العربية الاصيلة.
و تتميز هذه القاعة (البراني) بسقفها العالي المدور الذي يزيد إرتفاعه على ثمانية أمتار وتتوسطه قبة مزينة بزجاجيات ملونه تعكس اشعة الشمس إلى الداخل بالوان مختلفة تشبه قوس قزح.
ولأن الجلسة يجب أن تكون مريحة بالنسبة إلى الزائرين، يسارع العمال على الطريقة العربية إلى تقديم القهوة والشاي وكل أنواع العصير فضلا عن تقديم الاركيلة. وتتميز الحمامات بوضع القباقيب الخشبية بتصرف الرواد و هي متواجد بمختلف القياسات وموضوعة على ادراج القاعة الرئسية لتقود خطى المستحم نحو غرف “الجواني والوسطاني” التي يفصل بينهما ممرات ضيقة و دافئة.
والغرف المعروفة “بالجواني” أي الغرف التي تتميز بحرارة عالية وهي تعرف ايضا بغرف “التكييس” حيث يعمد العمال إلى تكييس جسم المستحمين بواسطة كف مصنوع من شعر الماعز الخشن و يقول احد المسؤولين في الحمام ان هذا الكف مطهر ولا ينقل الامراض الجلدية من جسم الى آخر ، ومن دون شك يستعمل الصابون البلدي المعطر حسب ذوق المستحم (عسل، ورد، غار…) كما يستعمل بعض انواع الصابون الطبي في حال كان يعاني المستحم من امراض جلدية وآلام المفاصل والتشنجات. و بعد الإنتهاء من المرحلة الاولى ينقل المستحم إلى غرفة المساج ويدلك لمدة 10 دقائق ثم ينقل إلى غرفة الوسطاني المعتدلة بحرارتها وهي عبارة عن قاعة صغيرة يجلس فيها المستحم على مقعد حجري بانتظار أن يبرد جسمه استعدادا للخروج إلى البراني ليوضع عليه المناشف من كل القياسات و في البراني يجتمع المستحمون بعد الانتهاء من الحمام لتناول القهوة أو العصير أو النرجيلة، وتبدأ الأحاديث والروايات التي تشمل كل المواضيع الاجتماعية الضيقة، و قد روى لنا أحد العمال ان بعض الاشخاص يمضون يوما كاملا دون ضجر او ملل وخصوصا العريس الذي كان يأتي مع اصحابه قبل ليلة زفافه للاستحمام ولوداع أخر ليلة عزوبية يرافقهم احيانا عواد وطبال وعازف كمان حيث يقيمون سهرة غنائية دافئة.
ولو كان الحمام مخصصا في معظم اوقاته للرجال فان النساء كان لهن اوقات محددة وكن يتبرجن ويتزين ويقضين اوقاتا مماثلة للرجال.
تجدر الاشارة الى ان طريقة التسخين في الماضي كانت تتم بواسطة وعاء نحاسي كبير يعرف بالمرجل وهو يستوعب 15 برميلا من المياه ويوضع عند طرف الحمام ويعمل بواسطة الحطب وفضلات المناشر. أما الآن فتتم عملية التسخين على الطريقة الحديثة، يستعمل مادة المازوت لتشغيل الشوفاج الذي يعطي الحرارة لكل غرف الحمام.
وما يثير الريبة اليوم هو أن يلاقي حمام العبد مصير غيره فيصبح معلما أثريا يزوره السياح فقط من دون أن المحافظة عليه ليبقى شاهدا على حقبة تاريخية مرت على هذه المدينة، و تمنى العديد من الطرابلسيين واللبنانيين من المسؤول في الدولة ان يحافظوا على هذا المعلم وان يدعموا صاحبه لكي يستمر في استقبال الزائرين ويساعد في جذب السياح الى هذه المدينة المحرومة.