تستكمل فعالية “مؤسسة الصفدي” الفكرية “جامعيو طرابلس: يقرأون، يبحثون ويكتبون”، ندواتها التي تقيمها بالتعاون مع وزارة الثقافة، في إطار احتفالية بيروت عاصمة عالمية للكتاب للعام 2009. وقد تناولت الندوة السابعة التي جرت في “مركز الصفدي الثقافي”، “الكتابة الإبداعية في نتاج الأديب والشاعر د. انطوان الدويهي، وذلك بحضور حاشد من الأدباء والشعراء والأساتذة الجامعيين، إضافة إلى مهتمين بالحراك الفكري والثقافي في الشمال. وقد توزعت الندوة على قسمين، قدم مدير المشروع د. مصطفى الحلوة في قسمها الأول، دراسة بعنوان “انطوان الدويهي: حتى عبور الركام”، في حين تضمن القسم الثاني شهادة ادبية قدمها د. الدويهي بعنوان: “انطوان الدويهي: ما بعد عبور الركام”، تخللتها قراءات من نثره وشعره بصوت الجامعيتين فرح ابراهيم عيسى وليفيا محسن يمّين. وقد أضفت هذه القراءات، منفردةً وعبر توليف مزدوج، أبعاداً طقوسية على هذه الشهادة، فغدت وكأنها “بوحُ اعترافٍ في محراب” على حد قول د. حلوة.
مداخلة د. مصطفى الحلوة
في مداخلته، قال د. حلوة: “إننا في حضرة الدويهي بإزاء إنسان يرى أن الكتابة هي دعوته، يبشر بها ليردّ على الموت. وكأننا به، وفق المعادلة الديكارتية، يعلن: “أنا أكتب، إذاً أنا موجودٌ، أنا في مُقارعة الموت”. وأشار د. حلوة إلى أن الدويهي، المهموم بالإنسان كائن الهشاشة الجسدية والنادب نفسه لمهمات تترجح بين المحلي والكوني، يعيش زمانه حالاتِ تفكّر وتبصّر تشفّ عن إنسان راءٍ أُوتي الحكمة وسلطانَ الكشف؛ لا تستبد به شطحات المتصوفين ولا تخرّصات العرّافين، بل يتلبّسه انخطاف السالكين العارفين، فنتساءل: هل انطوان الدويهي ما زال في عالمنا، لحماً ودماً، نستطيع تحسّسه ام أنه الطيف الذي يجول بين ظهرانينا وليس لنا منه إلا قوس قزح بلّوري يبعث بتوهجات نراها بأم العين ولكننا لا نستطيع القبض عليها كونها من عالم أثيري يُجافي عالم التراب؟!”.
ثم كان استعراضٌ من قبل د. حلوة لكتب الدويهي الخمسة التي تمتد بين عامي 1993 و2003 (“كتاب الحالة”، “حديقة الفجر”، “رتبة الغياب”، “الخلوة الملكية”، و”عبور الركام”). وقد تحصّل من خلال هذا النتاج، ولا سيما كتاب الحالة، أن الدويهي يعيش الزمن حالةً، لا ساعات وأياماً. وهو ينوجد في المكان حالةً أيضاً، غير متحيّز في مقاييس ومساحات. بل إنه مسكونٌ بما يُشبه انهيار الازمان، وبما يشبه عبور القرون والأعمار عبوراً سريعاً.
وعن النوع الكتابي لأدب الدويهي، رأى د. حلوة “أن كتابته لا تنتمي إلى نوع محدد. هي ربما أقرب ما تكون إلى السيرة الذاتية، لكن ليس سيرة الأحداث ووقائع الحياة الخارجية. إنها إذا شئنا سيرة الحياة الداخلية”. وفي كل ما كتبه، يرى د. حلوة، “أن الدويهي منتمٍ إلى حرية الروح. فهو يعبّر عن هواجسه الأساسية القائمة على الرفض وعلى نزعة تجاوز المصير البشري، لا على القبول”. وعما يُثار حول الطابع الديني النُسكي أو الصوفي لكتابته، اكد د. حلوة، على لسان الدويهي نفسه، “ان كتابته لا دينية. وإذا كانت بعض العبارات أو الإشارات قد وردت فيها، فهي تردُ في المعنى الجمالي البحت وليس في المعنى الديني”. وختم د. حلوة ممهداً لشهادة د. الدويهي بتساؤل: “هل استطاع الدويهي أن يعبر الركام، فيأتيه الجواب من لدن صاحب الركام”: “لم يستطع الركام أن يأسرني. أجتازه لأصل إلى الموقع الذي انطلقت منه: الفن. الفن هو نقيض الركام. إنه ملجأ خلاصي”.
شهادة الأديب والشاعر د. انطوان الدويهي
ثم أدلى د. الدويهي بشهادته قائلاً: “هناك في الحقيقة حياتان مختلفتان لي سأتحدث عنهما في هذه الشهادة. الحياة الأولى هي المرسومة في الزمن الخارجي، وهي تُقاس به. والحياة الثانية المقيمة في الوقت الداخلي، حيث لا قياس ولا حدود. الاولى هي حياتي الزمنية والثانية هي حياتي اللازمنية”. في حياته الاولى، قال “إن ثمة مسألتين تمحور حولهما اهتمامي على الدوام: مسألة الدفاع عن الطبيعة ومسألة الدفاع عن الحرية”. وأضاف: “إن الطبيعة المتنوعة الغنية الفريدة وثقافة الحرية هما النعمتان الكبيرتان الممنوحتان للأرض اللبنانية من دون سائر أنحاء الشرق، والممنوحتان لنا من دون سائر أهل الشرق. فكيف نحافظ على هاتين النعمتين المهددتين بالأخطار؟ وما مصيرهما في وجه العواصف الهابّة من الخارج ومن الداخل؟”. وأشار الدويهي إلى أن كل ما قام به من نشاط فكري في السنوات السبع الأخيرة، إنما دار حول مسألة الطبيعة ومسألة الحرية. فالكتاب الموسوعي الذي أشرف عليه، بمشاركة 28 إختصاصياً في مختلف ميادين العلوم الإنسانية، أخذ منه عامين ونصف من العمل الدؤوب، وقد صدر بجزءيه بالفرنسية عام 2006، وعنوانه “أربعة قرون من ثقافة الحرية في لبنان: القرن السادس عشر-القرن العشرون”. وقبله الكتاب الصادر بالفرنسبة أيضاً عام 2004 بعنوان “الطباعة في لبنان والمشرق”، الذي تحدث فيه عن مسار حركة الطباعة والنشر في لبنان وعلاقتها بثقافة الحرية وبديناميكية المجتمع لا الدولة. إضافة إلى المقالات التي نشرها والندوات والمؤتمرات التي أسهم فيها… كل أولئك يصبّ في هاتين القضيتين.
من نصوصه غير المنشورة عن مسألتي الحرية والطبيعة
وقد تمثّل الدويهي بأحد نصوصه، غير المنشورة، عن مسألة الحرية، جاء فيه: “إن المكان اللبناني شكّل مساحة فريدة في المشرق ونشأت وتطورت فيها ثقافة حرية ونمط حياة متصل بها، لا وجود لهما في أي مكان آخر في هذه المنطقة الواسعة الأرجاء. إنها بمنزلة “الأعجوبة المشرقية”. أمرٌ يكاد لا يصدّق في هذه المنطقة التي لا تزال، على رغم صعود الازمنة الحديثة، مرتعاً رحباً للاستبداد”.
وحول مسألة الطبيعة تمثل الدويهي بنص غير منشور أيضاً ورد فيه: “ما أدركه جيداً أن الطبيعة اللبنانية الراهنة هي جرحٌ فاغرٌ داخل نفسي. إني أعيش حالة التخريب والتشويه والتلويث التي تنهال على المكان اللبناني، كمأساة ذاتية، يومية، لا أحتملها. ومع انه مضى على عودتي إلى لبنان نحو خمسة عشر عاماً، فأنا لا أتأقلم في شيء مع هذا الخراب، ولا تزال صدمتي كما هي منذ اليوم الأول…”. ويضيف: “ثقافة المشهد غائبة، ويا للأسف، عن الذات اللبنانية المعاصرة. وهو أمرٌ لا علاج له على المدى المنظور. وهي غائبةٌ، ليس فقط عن الإنسان العادي، بل أيضاً عن الدولة، والكنيسة (المالكة الكثير من الأراضي)، وعن القوى والشخصيات السياسية، وعن النخب الفكرية عينها، وهذا هو الأسوأ. فما العمل؟ يشعر المرء في هذا المجال بعزلةٍ لا حدود لها. ويقول في نفسه: من الآن إلى أن تتكون ثقافة المشهد وتنتشر في المجتمع اللبناني، ربما خلال عشرات السنين، يكون قد انتهى كل شيء”.
وعن حياته اللازمنية بل الأدبية، فهي منسابة في الأعماق تحت الحياة الأولى وبعيداً عنها، حسبما يرى الدويهي. هي منسابة على الدوام خارج إرادته، لا قرار له فيها ولا خيار. ويشير الدويهي إلى أن الأدب يكمن في هذه الحياة اللازمنية. وإذا كان العقل والمنطق يحكمان الحياة الأولى، فهما يفقدان الكثير من حضورهما في الحياة الثانية، حيث الحلم، واللاوعي، وأغوار الذاكرة، والهواجس، والرغبات، والمشاعر، والمخاوف، والخيالات، والرؤى ومواكب الأسرار، وهذا الإدراك بأنك موصول بكل ما في الكون، وبكل ما كان وما سيكون منذ بدء الخليقة. ويضيف الدويهي “إنه في فسحة هذه الحياة الأخرى، هناك أيضاً تلك اللحظات المتوهجة التي تعبر فجأة، سريعاً، لا أحد يعرف متى، والتي تغني الذات بنور ساحر من أقصاها إلى أقصاها”.
وبوحي من هذه الحياة الثانية تمثل الدويهي بنص رائع قال فيه: “في تلك الحياة الثانية، الداخلية، الخفية، اللازمنية، تقيم أيضاً مملكتي الأرضية، وهي الآن تمتد من جبال قاديشا إلى شاطئ الميناء (طرابلس)، ثم البحر المتوسط، وصولاً إلى أرض هجرتي على ضفتي نهر السين، وبعدها بلاد النورمان والبروتون حتى شرفة المحيط. من جبل الحصن شرقاً إلى مرتفع الملاك ميخائيل غرباً، هذا هو محوري الأرضي. والبحر المتوسط لا يشكل حاجزاً ولا عائقاً بين أرض الجذور وأرض الهجرة، بل جسراً يتم عبوره في لحظة. وفي لحظة أيضاً، يتم العبور من شاطئ الميناء إلى مدينة السين!”.