منذ أيام أطل مزارع عكاري على أكثر من قناة ليعلن أن محصول البطاطا هذا الموسم قد بلغ ما يقارب المئة ألف طن، في ما حاجة لبنان الإستهلاكية لا تتجاوز العشرين ألف طن. هذا يعني وبكل بساطة أن الموسم جاء جيداً هذا العام وأن الفائض يبحث عن إسواق خارجية لتسويقه وتصريفه حتى لا يبور في أرضه أو يُرمى للخنازير كما يفعل المزارع في مجمل الدول الأوروبية.
كما كان بديهياً وطبيعياً أن يتوجه هذا المزارع المغلوب على أمره، إلى الحكومة باللوم والعتب بسبب الأذونات التي تمنحها لبعض التجّار باستيراد كميات هائلة من البطاطا المصرية والبطاطا السعودية، وإغراق الأسواق المحلية اللبنانية بالبطاطا التي يبتاعها التاجر الوسيط من المزارع اللبناني بأربعمئة ليرة لبنانية فقط للكيلو الواحد أي ما يعادل كلفة زراعته، كما جاء غلى لسان أصحاب العلاقة. لو حصل هذا الأمر في بلجيكا أو فرنسا لقامت الدنيا ولم تقعد إلى أن تقوم الحكومة باتخاذ الإجراءات الكفيلة بوضع حد لعمليات الإستيراد أو التعويض على المزارعين بطريقة ما.
هو المزارع يا سادة يا كرام الذي من دونه لا يقوم مجتمع ولا تبنى أوطان. الزراعة هي التي نقلت الإنسان من البداوة إلى الحضارة. والأمن الغذائي هو الذي من دونه لن تتمكن أية حكومة من بناء إستراتيجية دفاعية حقيقية… لأن الزراعة هي خط الدفاع الأول والأهم الذي وراءه نتحصن من أجل مواجهة كل التحديّات.
عفوكم أيها الحكّام، نسيت أنكم تبحثون عن الربحية العالية مع إنعدام المخاطر، وتلهثون وراء القيمة المضافة. الحقيقة أنكم لم تهتموا يوماً بالمواطن، مزارعاً كان أم حرفيّاً أم عاملاً… ما دمتم أغنياء قادرين على شراء الفواكهة والخضار الطازجة والحبوب المعلّبة واللحوم المجلّدة، المستوردة كلها من بلدان العالم كافة وعلى مدار السنة.
لقد أفرغتم القرى من سكانها وجئتم بهم إلى المدن التي ضاقت بهم لأنها في الأساس لا تطيق العاطلين عن العمل المتسكعين على أرصفتها، التائهين في أزقتها، اللاجئين في حدائقها العامة، الباحثين عن مأكل يقيهم الموت جوعاً في مستوعبات القمامة الموزّعة على المفارق وفي الساحات العامة.
هي عقود قليلة ستمضي قبل أن يدرك المواطن في لبنان أن لا غنى له عن ضيعة يلجأ إليها، وبيت يأويه، وأرض يزرعها، ومساحة من الحرية يتنعم بها، وهواء عليل يتنشقّه، ومياه عذبة يهنئ بها، ولقمة خبز نظيفة يأكلها.