من يدخل مدينة طرابلس زائرا، لا بد له من التجوال في اسواقها الأثرية التي اشتهرت بها المدينة المملوكية الثانية في العالم العربي. هذه الأسواق التي وضع مخططها الهندسي المماليك في تصنيف ينَم عن دراية بطبيعة المدينة وحاجتها لأن تكون حاضنة لمختلف انواع التجارة وما يحتاجه سكان المدينة وجوارها.
“سوق العطارين” هوأحد هذه الأسواق التاريخية، التي نشأت جنبا الى جنب مع اسواق الصاغة، الكندرجية، البازركان، سوق حراج، الدباغة، النحاسين والتربيعة المتخصصة ببيع الموبيليا وسائر أنواع نجارة الخشب، وخان الخياطين وسوق السمك، لكل سوق من الأسواق وظيفته ومهنته فكانت هذه الأسواق قلب المدينة النابض بالحياة والمفعم بالحيوية التجارية لا تهدأ الحركة فيه ليل نهار، قبل اندلاع المحنة اللبنانية الى بات له نظامه الخاص منذ العام 1975 فتغيرت الحياة فيه بحيث بات يقفل مع غروب الشمس.
تتجول في هذه الاسواق فتجد نفسك أنك أمام اسواق تعبق بالتاريخ حجارته لا تزال مملوكية، مساجد أثرية وتكيات ومدارس دينية وحمامات بعضها تقاعد والبعض الآخر لا يزال في خدمة الزائرين العرب والأجانب، أبرزها حمام العبد، وخانات وأهمها خان “سيدي عبد الواحد” الذي كان يستقبل زوار من الدول العربية ممن يقيمون لايام في الخان ايفاءً لنذرات حيث يؤمنون بقدرات الاولياء فيضعون ما تيسر به الحال امام ضريح الشيخ لتحقيق أمنياتهم وخاصة الزوار من المغرب العربي وحسب قول المسؤول عن المزار أن سيدي عبد الواحد أصوله مغربية.. ويلاحظ أن معظم مزارات الاولياء في أحياء طرابلس الداخلية هم من أصول مغربية.
عدا عن ذلك فإنك تلاحظ تلك الأبنية الأثرية التي لا تزال على هندستها المعمارية المملوكية خاصة الأزقة المتصلة بعضها بالبعض الآخر والتي توصلك أينما اتجهت من أي زقاق الى المكان الذي تريده.
اما سوق العطارين فله قصته الخاصة.. فهذا السوق نشأ ليكون العيادة الشعبية العامة، انتشرت على جانبيه محلات العطارة التي تبيع مختلف انواع الأعشاب الطبية، والوصفات الشعبية للأمراض الى درجة أن بعض اصحاب هذه المحلات امتهنوا تركيب الادوية الشعبية وتحضيرها وفق وصفات طبية قديمة مستعينين بابن سينا وغيره من الاطباء العرب القدامى يوم لم يكن هناك ..بل خبرات مجربة وناجحة في مداواة بعض الامراض.
نشوء هذا السوق في موقعه الراهن كان مدروسا بعناية حيث شاء حاكم طرابلس المملوكي السلطان ناصر قلاوون بناء السوق في جوار الجامع المنصوري الكبير، غايته من ذلك إحاطة المصلين الذين يؤمون الجامع بروائح العطور الزكية لما في ذلك من دلالات دينية شعبية، ومنها الأحاديث النبوية التي تشير الى أنه من المستحب أن يتعطر المصلون حين يدخلون للصلاة، ومن الروايات الشعبية تلك التي تتحدث عن طرد الشياطين بروائح عطرة.
وبالفعل ـ يقول أحد كبار السن الحاج عز الدين ـ أن الروائح العطرة كانت تنبعث من السوق فتفوح في ارجاء الجامع، وكان السوق الى وقت ليس ببعيد عابقا بالعطور، وكان يرتاده ألوف المواطنين من طرابلس ومن جميع المناطق اللبنانية وحتى من الدول العربية.
اما لماذا كان لهذا السوق كل هذه الاهمية؟ يجيب الحاج عزالدين: لأن محلات العطارة كانت تؤمن جميع انواع الاعشاب حتى النادرة منها وكان هناك من يهتم بجمع هذه الاعشاب من جبال الشمال من الضنية وعكار وهي جبال غنية بالأعشاب الطبية فيما كان بعض العطارين يعملون على استحلاب واستخراج المواد الطبية المفيدة من هذه الاعشاب.
ويتابع: الى الامس القريب كنت تلاحظ أن سيارات الشحن الصغرى كانت تدخل محملة بالأعشاب، أما اليوم وللأسف فترى هذه السيارت تدخل محملة بالخضار والفاكهة والاسماك واللحوم بعد أن تغير وجه السوق العطر الى وجه كالح من الفوضى التي استشرت به حتى اصبحت العطارة على ابواب الاندثار لولا همة وجهود بعض العطارين الذين خرجوا من السوق الى شوارع وساحات المدينة حفاظا على مهنة ورثوها ابا عن جد منذ أكثر من مئتي سنة.
واقع السوق الحالي يؤشر الى فوضى مستشرية والى وضع يتنافى والمباديء الصحية… والروائح العطارة التي كانت تنبعث منه على المصلين في الجامع المنصوري الكبير من جهة وعلى سوق الصاغة من جهة ثانية، حلت محلها الروائح النتنة والقذرة جراء بيع الأسماك واللحوم والدجاج ومن محلات الخضار والفاكهة التي حلت محل العطارة، ورغم ذلك أبى بعض العطارين إغلاق محلاتهم فصمدوا في السوق بينما خرج زملاؤهم الى اسواق المدينة في ساحة النجمة وشارع عزمي وفي ابي سمراء حاملين معهم إرثا من العطارة ولوحات تتحدث عن الآباء والجدود للدلالة على عراقة مهنتهم.
واليوم حين تتجول في سوق العطارين فإنك ستلاحظ أنه لم يبق منه إلا الاسم فأصبح سوقا للخضار ولبيع الاسماك واللحوم إلا العطارة التي إنحسرت الى محلين صغيرين بالكاد تستطيع أن تعثر عليهما وسط تلك الفوضى المستشرية التي توحي بإهمال فاضح للبلدية التي كما يبدو لم تول أهمية ولم تبذل جهدا للحفاظ على هوية السوق وعلى رعايته الصحية والحفاظ على معالمه الأثرية.
تعبر السوق فتزكم الانفس تلك الروائح الكريهة وتحتار السير في ممره المليء بالمياه النتنة المنبعثة منها روائح الأسماك والدجاج ولعلّ هذا الواقع الذي دفع بهجرة العطارين الى خارجه بعد أن ملوا الفوضى والاوساخ نتيجة اهمال البلدية ولامبالاتها الحاج خالد صادفناه يعبر السوق حدثنا مشيرا الى أكوام الزبالة والى البسطات المنتشرة على جانبي السوق معلنا أسفه لما آل اليه السوق وموضحا أنه حين كان يرتاد السوق كانت الروائح العطرة تشعرك بالانتعاش وكان الزبائن يثقون بفائدة الاعشاب لا بل يرتاحون الى وصفات العطار الخبير في مداواة ومعالجة الكثير من الامراض فكان العطار بمثابة الطبيب الشعبي الذي يدرك بخبرته الطويلة والموروثة فائدة هذه العشبة اوتلك لهذا المرض او ذاك.
آل الشهال من ابرز العطارين الذين كانوا في السوق الشهير، هجروا السوق الى ساحة النجمة وتوزع الابناء فتح محلات عطارة في اكثر من شارع في المدينة، والعطارة مهنة ورثوها ابا عن جد وخبرتهم في تحديد منافع كل عشبة وضررها لا تضاهيها خبرة حتى الشباب منهم امتلك الخبرات فكأنه ولد بين الاعشاب وامتزجت روحه بها فتجد أحدهم يصف هذه العشبة اوتلك ويؤكد أن نتائجها مجربة وفوائدها اثمرت نتائج صحية ملموسة.
اما لماذا هجر السوق فيقول احد هؤلاء: لعدة اسباب منها الفوضى التي استشرت والاوساخ التي انتشرت والروائح الكريهة التي تنبعث من محلات الاسماك وبيع الدجاج واللحوم.. اضافة الى ذلك أن الوصول الى السوق بات صعبا لضيق المكان ولعدم قدرة الزبائن الوصول بسياراتهم الى السوق.
حيال هذا الواقع وجه عدد من المواطنين اكثر من نداء الى بلدية طرابلس علها تتنبه فتبادر الى إعادة السوق الى سابق عهده وإعادة تاريخه اليه وصيانة آثاره، والى وزير الصحة العامة عله يضع حدا للفوضى الصحية في السوق.
فسوق العطارين وجه من وجوه المدينة وحري بالمسؤولين صيانة هذا الوجه مع باقي الاسواق التاريخية في طرابلس العاصمة الثانية والمدينة التاريخية التي تصارع المدنية الزاحفة اليها بباطونها وبحداثة مصطنعة قد تلغي هويتها إن لم يبادر الجميع الى حمايتها..