حدثني أبي فقال: شهدنا يا بنيّ فقراً وتذوقنا جوعاً وجرعنا مراً بعد الحرب العالمية الأولى وأثنائها! عضتنا الفاقة, فأرسلني جدّك(يعني أبيه) إلى قرية بينو لأعمل في مخنق للقز هنالك كان قد أسسه وأقامه أحد التجار آنذاك, كان لطيفاً, فلقد استقبلني بابتسامة وهدوء, وقبل بي عاملاً في مصنعه. تنهد من أعماقه وتابع حديثه: بدأت في عملي يا بنيّ بشغف! ولكن لما جاء وقت الظهيرة, فكرت في صلاة الظهر, ولم أفكر في تناول الغداء, فانفردت جانباً, وأقمت صلاتي, فاستعجل أحد العمال ووشى بي إلى صاحب المعمل, قائلاً له إن عاملك هذا جاء ليصلّي هنا بدل أن يعمل…فأتى صاحب المعمل ووقف بقربي دون أن يتكلم ولا بأية كلمة, وانتظرني حتى أتممت صلاتي, فلما وجدته بقربي, بادرته فوراً بجملتين مقتضبتين, فقلت له: إنني أريد أن أقيم صلاتي في وقتها, فان كان الأمر لا يعجبك فسأنصرف, وأردت أن أتابع الكلام, فمد يده بهدوء إليّ ووضعها على فمي. بإشارة لي بالسكوت, وسألني قائلاً: وكم مرة عليك أن تصلّي يا بنيّ أثناء العمل؟ فأجبته مرتين. فابتسم وقال: صلّ يا بنيّ أربعاً أو ستاً بل صلّ كلما شئت يا بنيّ, فان الله سيبارك لي هذا المكان!
صمت أبي, فنظرت إليه فوجدته وقد اغرورقت عيناه بالدمع, فمسح دموعه, ونظر إلى السماء وقال: فليرحم الله فلاناً, وليرحم الله زماناً كنّا فيه أخوة متسامحين. ثم أردف قائلاً: ولقد عملت عنده طيلة الموسم وكنا على ود وعلة مودة مبنية على الاحترام وعلى التسامح, ولما غادرته ضمني وعانقني, وطلب مني أن أعود إليه ساعة أشاء! قال أبي لكنني لم أستطع رؤيته بعد ذلك اليوم, فلقد عملت في مجالات أخرى, وتوفاه الله, ولكن ذكراه تدوم في قلبي إلى الأبد…
وأنا إذ أذكر هذه القصة الأخيرة التي تكثر مثيلاتها في مجتمعاتنا إنما أذكرها لتخلد ذكراها, ولأذكر أولئك الذين اسودت قلوبهم بالحقد والكراهية والتعصب والمذهبية, بأن الله هو ربنا جميعاً, وإننا جميعنا نؤمن بالله فليصل كل واحد منا كما يريد فإنما يصلي لله ولندع الله بأسمائه وصفاته, فانه هو الله, لن يختلف ولن يتغير, فهو الأبدي الأزلي السرمدي, جلَ وعلا وتنزه عن كل ظلم وعن كل حقد وعن كل كراهية, فالله هو المحبة والرحمة والتسامح والغفران, وأين كل ذلك من التعصب والحقد والكراهية؟
فاتقوا الله يا أخوة الإنسانية ويا أخوةً في الوطن! فلا فضل للواحد على الآخر الا بمقدار ما يقدمه من خير ومن محبة ومن تسامح لأهله ولأبناء وطنه وللوطن ككل. فالكل هم عباد الله, والكل هم أخوة في الوطن, وليكن لنا من هذه القصة عبرة حسنة فمن اعتبر فقد أصاب, ومن تجاهل فقد هلك وخاب.
د. مصطفى عبد الفتاح
مخنق القز: هو المكان الذي يجري فيه حلّ شرانق القز وتسليكها لتصبح خيوطاً قابلة للنسيج وكانت معروفة في أوائل القرن العشرين