فايز وديع فارس
كل المراكز والمواقع والمناصب والألقاب تعرضت في لبنان إلى المهانة والسقوط وفقدان قيّمها الإنسانية والمهنيّة تدريجياّ منذ إندلاع حروب لبنان العبثية، وبالتحديد منذ توقيع إتفاق الطائف الذي كان يفترض به أن يحمل في طيّاته ومضامينه إلى لبنان واللبنانيين السلام الأهلي والمصالحة الحقيقة بين المواطن والدولة من جهة، وبين المواطن وأخيه وجاره وشريكه الطبيعي من جهة أخرى والذين تفرقوا وتباعدوا حتى فقدوا “طعم حليب أمهاتهم”. وصرنا نسمع تكراراً من يقول ويردد بشكل عفوي “نيالو ارتاح”، كلما عرفنا أن صديقاً أو زميلاً أو جاراً لنا قد رحل عن هذه الدنيا الفانية.
إلتقيت الصحافي العتيق منيف رستم خلال مظاهرات طلبة الصفوف الثانوية في طرابلس مطلع العام 1970، ولم يكن يخطر على بالي في حينه أن قريبي باسم المعلم الصحافي الناشئ سيطلب مني بتكليف من ادمون صعب المسؤول عن الصفحة الطلابية في جريدة “النهار” بأن أهتم بتغطية أخبار المظاهرات الطلابية الشمالية ومن ثم الشؤون الثقافية، إلى جانب مراسل جريدة “النهار” الصحافي المعتّق نجيب اسكندر.
منيف رستم كان الألطف من بين رعيل تلك الفترة، عماد المقدم وفؤاد دعبول وسيف الدين الخطيب، إضافة إلى نجيب اسكندر. تعلّمت من منيف رستم ما أكدّه لي في ما بعد جوزيف نصر وميشال أبو جوده، أن ليس هناك معلومة غير مهمة، وأن ما يبدو لك اليوم غير مهم سيكون هو الأهم ذات يوم، فلا تستخف بأحد ولا تهمل معلومة مهما بدت لك صغيرة في حجمها أو خفيفة في وزنها.
عام 1971 غادرت إلى فرنسا حيث درست الصحافة والعلوم السياسية وعلم اللسانيات وعملت في أكثر من مجال. وعندما عدت إلى لبنان نهائياً عام 1993 فوجئت أن منيف رستم ما زال يتذكّرني وأنه ما زال على عهده ودوداً لطيفاً في علاقاته الإنسانية وباحثاً مستميتاً عن الخبر مهما كان نوعه أو طبيعته. ولا عجب إذا كان يعتبره البعض أرشيفاً نقالاً للماضي والحاضر.
منيف رستم يذكّرني بحكاية عنوانها “جبر من بطن أمّو للقبر”. كنت أزوره من حين لآخر في مكتبه المؤلف من قلم وأوراق وأرشيف مبعثر وجهاز هاتف وفاكس فقط، وبخاصة بعدما عدت إلى قلمي وأوراقي بعد الزلزال الكبير الذي دكّ أساسات لبنان وضرب عقول اللبنانيين وشتتهم بدل أن يجمعهم، يوم الرابع عشر من شباط 2005. كان يثني على ما أكتبه ويسألني عن عائلتي الصغيرة، وعن صديق طفولته العم عصام فارس، وعن الأستاذ مايز إبن معلمه الأول محمود الأدهمي.
أما أنا فكنت أتأمله وأتذكّر بداياتي في مهنة كل المتاعب، لأنه كان رغم باعه الطويل وجولاته وصولاته، من القلائل الذين حافظوا على تواضعهم الإنساني والمهني في زمن التعالي والتكابر والتجبّر والإدعاءات الفارغة. أعذرني يا أستاذي وصديقي، لأنني لم أذهب حسب الأصول لتعزية أهلك بك… لأنني فضّلت الإحتفاظ بحزني وألمي بعيداً عن عيون الفضوليين، ولأنني إلى حد ما أرفض تقبل فكرة رحيلك.
أين ومتى سنلتقي من جديد ؟ الله أعلم.