بقلم: د. محمود حمد سليمان
عكار هي القضاء الأكبر في لبنان مساحة وعدد سكان. هي المنطقة الواقعة في الطرف الشمالي من لبنان عند الحدود مع الشقيقة سورية، ويفصلها جنوباً عن قضاء المنية/ الضنية نهر البارد، أما جبال القموعة وهضابها البديعة فتفصلها عن قضاء الهرمل شرقاً حيث تترامى عكار بمنحدراتها وسهلها لتنبسط على شاطئ البحر الأبيض المتوسط غرباً.
وفي عكار ميزتان بارزتان:
الأولى: أن هذه المنطقة من أبدع ما أبدعه الخالق سبحانه وتعالى، بما أضفاه عليها من سحر وجمال وعذوبة، وبما ازدانت به من إبداع في مختلف الفصول والأيام. ففي عكار جبال يصل علوّها إلى الألفي متر عن سطح البحر وفيها سهل فسيح ينبسط عنده المتوسط منهكاً من سفره البعيد.. وما بينهما هضاب وتلال وأودية وأنهار وجداول كلها توحي لك بالإيمان العميق فلا تملك إزاءها إلا تسبيح المبدع الخالق أو أن تقول: (فتبارك الله أحسن الخالقين).
الثانية: هي أنه بقدر ما في عكار من جمال طبيعي حباها به الله سبحانه، بقدر ما فيها من حرمان رمتها به الدولة على مر العهود والزمان. ويكفي أن نذكر أنه في العام 1935م، قام وفد من مثقفي عكار وفعالياتها بجولة على المسؤولين في بيروت وهو يحمل عريضة موقعة من عدد كبير من الفعاليات العكارية يطالبون فيها بجعل عكار محافظة من الناحية الإدارية. من ذلك الزمن والى اليوم والمطلب ما يزال قائماً لم يعرف طريقه إلى التنفيذ بعد، فكيف إذا ذكرنا أن 70 % من طرق عكار الرئيسة لم تزل كما تركها الفرنسيون عام 1943م. وأن 70 % من قرى عكار ما تزال عطشى إلى اليوم لم تعرف بعد مياه الشفة كما في غير منطقة من لبنان. ولو قصدنا أن نعدد أوجه الحرمان لاحتجنا إلى كتاب قائمٍ بذاته.
هاتان الميزتان هما الأبرز في واقع عكار وحاضرها، وهما شئنا أم أبينا ستتركان أثرهما على كل نفس وموهبة ولا سيما في الشعر الذي هو المرآة الأصفى التي ينعكس عليها الواقع بكل ما له وما عليه. فالشاعر ابن بيئته وعليه فشعراء عكار يولدون من رحم المعاناة فنراهم إذ ذاك ملتصقين بالهموم الوطنية والقومية، ويترعرعون في حضن دافئ من طبيعة خلاّبة فيجنحون مرغمين إلى وجدانية نقية صافية استمدت طهرها من طهر تلك الأرض الطيبة.
إننا لم نصل إلى هذا الاستنتاج إلا بعد أن تصفحنا وقرأنا عدداً كبيراً مما صدر عن العكاريين من قصائد. فوجدنا أنه بإمكاننا أن نضعها في إطارين أساسيين هما: الشعر الوطني والقومي من جهة، والشعر الوجداني والغزلي من جهة أخرى.
الشعر الوطني والقومي:
معظم شعراء عكار كتبوا في الوطنيات والقوميات، وقد لا نجد أحداً منهم إلا وكتب قصائد في لبنان وفلسطين والعراق والقدس والمقاومة والوحدة العربية وأحلام الحرية والاستقلال، وغير ذلك. على أن البعض من هؤلاء الشعراء التزم فقط الكتابة في هذا الباب دون غيره من أغراض الشعر الأخرى فجاء شعره شعراً وطنياً ملتزماً أو شعراً قومياً بامتياز، ومن هؤلاء الشاعر عبد الكريم حبلص الذي عرف بقصائده الطويلة، وهو يكتب القصيدة الحديثة الملتزم فيها بالتفعيلة وقد حمّلها ما استطاع من طاقات وجدانية وايحاءات ورمزية طبعتها بشيء من السحر والأناقة، يقول من قصيدة بعنوان: «هيا حسين»
«هيا حسين، وكربلاء
هيا فجدك غاضب
والأرض تغدو خِرقة
مطوية الأطراف في كف النساء
والعصر فيض مواجعي
وخصوبة السكين تصهرني نقاء
والجرح درب بين قلبي، والسماء»
أما قصيدته الأطول في ديوانه فهي بعنوان: «بغداد في قلبي كتاب» يقول في مطلعها:
«ماذا جنت؟! ما ذنب أشجار النخيل؟!
يجتثّها، ويدوسها عِلْج دخيل
تسطو عليها في الصباح الباكر
وتذلها عند المغيب
أرتال جيشٍ ماكرٍ، لفظته شطآن البحار»
إلى أن يقول:
«ما ذنب أشجار النخيل
تعطي ظلالاً وارفه
فينالها حقد ثقيل
وتدوسها قدم الغريب
فتسر في صمت، تقول:
قلبي ملاذ الخائفين
كفّاي نبع للعطاء
أُعطي ثماراً للجميع
لا أعرف الحُرَّ المكافح، والدخيل
وأقاوم الحَرَّ المكابر، والصقيع
وأذوب عشقاً خالصاً
وأُجيد تكرار الربيع»
وهكذا نلاحظ أن القصيدة كانت محفلاً لإيحاءات ودلالات نفسية وشعورية كثيفة ومتدفقة، وفي الوقت نفسه برز فيها دور العقل في المقاطع والأقسام إذ لكل مقطع منها فكرة أو افكار أراد الشاعر إيصالها إلى ذهن القارئ بسلسلة متصلة ومترابطة ومتكاملة.
أما في القصيدة التي جاء عنوانها هو نفسه عنوان الديوان، فيقول في مطلعها:
«نغم على شط الفرات
نغم يهيم بدجلةٍ
ينساب في أرض العراق
نغم يرفّ حمامة
يجتث من قلبي الصدأ
والشمس ترخي ثوبها الفضفاض، تحتضن النهار»
إلى أن يقول:
«ويهل في الشرق المطر
فيباد من عبروا البحار
ويظل ليلك يا عراق
صيفاً يطارد كل ألوان العفنْ
ويفض أغلفة البذار
يعمي بصائر من تمادى في ركوب البغي من نسل التتار»
ففي هذه القصيدة، كما في كل قصائد الديوان، نجد عبد الكريم حبلص يجيد ويتقن أنسنة وشخصنة الجمادات فيبثّ فيها دفقاً شعورياً وروحياً يجعلها كائناً حياً، وهذا ما أعطاه للعراق وبغداد والنخيل، وغير ذلك من المدن والأنهار والأماكن، التي شخَّصها دون تزييف أو تزوير ما يجعلك تحس معه بصدق العاطفة وعفويتها بعيداً عن التكلف والتصنع. ومن جهة أخرى ففي قصائده دفق من الموسيقى الداخلية التي تمر وئيدة هادئة دون صخب أو ضجيج فتلامس الأُذن والقلب في آن معاً.
أما الدكتور مصطفى عبد الفتاح فلا يقل ثورية صادقة وقومية مخلصة عن الآخرين ممن ارتقوا هذا السلم ونسجوا على منواله. يقول من قصيدة «بكاء على التاريخ»:
أبكي واصرخ من حزني ومن ألمي |
|
قد جفَّ دمعي وجفَّ الحبر في قلمي |
إلى أن يقول:
هذا السعير يهز القلب إذ هزلت |
|
فينا المزايا فصرنا أسوأ الأمم |
وهو كتب القصيدة الكلاسيكية العمودية، وكتب القصيدة الحديثة أيضاً وما بينهما عواطف مبثوثة ومشاعر تنضح بالصدق والعفوية وحرارة المشاعر والأحاسيس. يقول من قصيدة «قانا وأخواتها»:
«قانا
كتاب المعجزة
قانا حكاية مستحيل
قانا
معالم قصة
عنوانها
الأمل الجميل»
ثم يروح وبأقل ما يمكن من كلمات وألفاظ، يصوّر لنا كيف تحولت قانا إلى رمز لأخواتها الأُخر.. الشهيدات، وكيف تحولن جميعاً بقامات مرفوعة إلى أشعة من لآليء فوق غرَّة الزمن.. ومرابض للفجر في عرس الزمن الذي تبددت فيه الظلمات.. واستفاق النبض هنالك في عدن.
هكذا وبمثل هذه الرمزية يخاطب مصطفى عبد الفتاح الشهداء أطفالاً كانوا أم فرساناً كما يخاطب القرى الشهيدة ليجعلها منارات مضيئة على جبهة التاريخ لكل زمان مقاوم.. وصولاً إلى سيد المقاومة الشيخ حسن نصرالله فيقول فيه:
«يا سيد الأحرار والأقوام |
|
من نور وجهك أستقي إلهامي |
ويقول من قصيدة بعنوان «سقوط العراق»:
«سقط العراقْ
وشربنا الكأس
والكأس مر ودهاقْ
واليعربي المتخم المخبول
نام وما استفاقْ»
وقد يتغزل باللاذقية، الواقعة على الساحل السوري، فيقول:
«هاجني الشوق إليكِ
يا ربوع اللاذقية
يا فتاة البحر والأحلام
والشمس البهيه
عشتُ عمري في هواكِ
كنتِ أحلامي النديه
كنتُ طفلاً يوم كنتِ
قلعة الشط العصية»
وهكذا نرى كيف أن الشاعر يعيش الهمّ القومي والهموم الوطنية الأخرى، حتى وهو يحب أو يكره، أو يفرح أو يتألم.. وإننا نلمح توقه إلى الحرية الذي لا يعادله إلا شغفه بالمقاومة والإيمان بحقيقة انتصارها سواء أكان ذلك في العراق أم فلسطين أم لبنان، وهو إيمان يتكرر في قصائد مصطفى عبد الفتاح وأشعاره بقدر ما يتردد صداه في شعر شاعر عكاري آخر هو محمد حبلص، الذي يطالعنا بقصيدة يتغنى فيها ببلدته ومسقط رأسه «برقايل»، فيقول في مطلعها:
«خلود مجدكِ في التاريخ والكتبِ |
|
ونور وجهك لمّاح لدى الشهبِ |
والقصيدة كلها جاءت مسرحاً للتغني بتاريخ برقايل وأهلها ومدعاة لافتخار الشاعر بأمجادها الغابرة. على أن محمد حبلص انطلق من «برقايل» ولكنه لم يتوقف عند حدود معينة فحلّق في سماء القدس والشام وقانا وبغداد ومكّة، وطاف غير محطة تاريخية ورمزية في تاريخ الأمة العربية ومجدها التليد. على أن القدس قد حازت النصيب الأوفر من شعره، فقد كتب لها خمسة قصائد في ديوان «زئير العاصفة وحده». وذكرها متغنياً في أكثر من قصيدة من قصائد الديوان الأخرى. ومنها قصيدة بعنوان: «هوى مقدسي» ومطلعها:
«أُغنيك يا قدسي غناء العنادل |
|
فينساب شعري كانسياب الجداول |
ويقول في قصيدة أخرى بعنوان: «الحجر القدسي»:
«مرحى له الحجر القدسيّ مرميّا |
|
بقبضة لم تخفْ حقداً يهوديّا |
وأما العروبة فلها في دواوينه قصائد عديدة أيضاً. بل إنها الروح السارية في كل خفقة من خفقاته كما في كل بيت ومقطع وعبارة يقول فيها:
«كالشمس يزهو نورها اللألاء |
|
منذ استراح على الثرى القدماء |
وقد يتغزل بها كما العاشق الولهان، متفاخراً بأنه عربي:
«القدس للعرب حتى قبل أن نزلت
|
|
من السماء ديانات وآلاء
|
وهكذا نجد أن محمد حبلص يتخذ من العروبة مقياساً يقيس عليه كل ما حوله ومعياراً للحكم على الآخرين محمّلاً قصائده ما استطاع من مشاعر قومية وأحاسيس وقد غلّفها بحشد من الرموز والطاقات الثورية المؤمنة والواثقة بحتمية الانتصار.
وقد نجد هذا النفس الثوري أكثر وضوحاً وإشراقاً في ديوانه «قصائد متمردة» وهو الديوان الذي مزج فيه بين قصائد يتغنى فيها بحب لبنان وأخرى يحوم من خلالها في سماء العروبة وآفاقها البعيدة والقريبة. على أن الملاحظ في شعره هذه العفوية التي تنساب جاعلة الأفكار تتلاحق سلسلة والألفاظ تتراصف بكل وضوح ودون أي تعقيد أو إبهام. يقول في وطنه لبنان:
«إن شئت بالسيف أو إن شئت بالقلم |
|
أذود عنك فلا تعتب ولا تَلُمِ |
والى المعاني نفسها يذهب في قصيدة أُخرى قائلاً:
«لذكرك، لبنان، يزهو القصيد |
|
ويحلو على شفتيَّ النشيد |
والى مثل هذه المعاني ايضاً، ينهض جبران نادر في قصيدة نظمها على سلك الشعر الحديث بعنوان «يا بلادي» ومنها قوله:
«أهواكِ دامعة الجمال الغضِّ
يا أُم الجمال
أهواكِ راعية يقلد «أُوفها»
عمق الوهاد
أهوى محياك الصبيح يسيل
ترشفه الجبال
فتميد بالآس العبيق، بضاحك القندول
بالقصعين يصحو من رقاد»
ويتغنّى جبران نادر بالجنوب اللبناني الجريح والمقاوم فيكتب تحت عنوان: «يا عروس الجنوب»
«يا عروس الجنوب في حللٍ |
|
الطهر وتيه الزنابق البيضاء |
وبهذا النفس الهادئ تنساب القصيدة كلها بخلاف ما عرف عن الشعر الوطني من صخب وحماسة وعواطف مندفعة.. بالإضافة إلى ذلك فقد تميزت هذه القصيدة بليونة ألفاظها وحداثتها، ووضوح جملها وتراكيبها على شيء من روح التأمل والسكينة وهي تنضح من قريحة الشاعر وأحاسيسه.
أما الخوري نايف اسطفان فيمزج مدحه للبطريرك «هزيم» بمشاعره القومية والوطنية وبالتغني بالمقاومة وبالرموز القومية وبالعروبة وبكل ما يشير إليها أو يذكر بها، يقول:
«صليب للتسامح والسلام |
|
ورمز للتواضع والوئام |
وبعد أن يشير إلى دور الشام في دعم المقاومة ومساندتها يخلص إلى مدح البطريرك ومواقفه الحرة والمقاومة:
«ولن أنسى مواقف كل حرّ |
|
مقدّمهم بطريرك الروام |
وهكذا نجد أن المقاومة والشام والقدس والعروبة قد اتحدت كلها في سبك واحد من المعاني وتلاقت عند مدح البطريرك وتفرّعت عنه بكل وضوح وليونة وبعيداً عن الحوشي والغريب والتعقيد، ليس في المعاني فقط، وإنما أيضاً في الألفاظ والتراكيب والعبارات التي جاءت بمتناول اليد والذهن والفهم..
وقد لا يغيب دور العقل عن هذه القصيدة رغم أنها تضج بالعواطف والمشاعر، وهو ما نراه في مناقشة الأب نايف لليهود ودورهم القائم على المكر والغدر والحقد.. وفي رؤيته للتاريخ العربي الحافل بطرد الغزاة والمستعمرين والمتجبرين..
وفي عكار شاعر آخر حلَّق في فضاء العروبة الحضارية وحمل هموم أُمته وقضاياها، هو الشاعر العروبي فهد إبراهيم الذي لا يغيب عنه الهمّ القومي وإعادة الأمة العربية إلى مجدها الغابر حتى وهو يصف أو يتأمل أو يتغزل… وقد لا تمر مناسبة إلا وله فيها قصيدة، وقد لا يمر حدث إلا وله فيه وقفة شعرية طويلة، وربما وقفات كثيرة.. فهو يغني بيروت ودمشق وبغداد والقاهرة ويتألم لفلسطين والجزائر ولبنان وكل أرض عربية وضعها الاستعمار الغربي تحت المجهر.
يقول مخاطباً بيروت في أثناء الحرب اللبنانية:
«أبى عليها العلى أن ترتدي العارا |
|
أو ترتضي الذلَّ إذعاناً وإقرارا |
وبعد أن يصب جام غضبه على «شارون» واليهود وما يحملونه من همجية وتوحش، وبعد أن ينهال على الأنظمة المتخاذلة والمتهاونة بكل نعوت الذل والمهانة والخيانة، بعد كل ذلك يبشر فهد إبراهيم بالثورة الآتية من حرب تحرير شعبية منبثقة من إرادة الأحرار في لبنان والأمة كلها، وعندها لن يعود ينفع الخلل في موازين القوى لصالح العدو أمام الخلل في موازين الإرادة لصالح المجاهدين والمقاومين.. وكل ذلك بثورة عارمة من الحماسة والأحاسيس المنفعلة إلى أن يقول:
«عفواً بني أمتي إن جرتُ في غضبي |
|
ما لِيمَ حرٌّ، جريح القلب، إن ثارا |
وفي قصيدة قاربت الستين بيتاً بعنوان: «جمال عبد الناصر» حاول فهد إبراهيم أن يحشد فيها كل معاني الجهاد والعزة والكرامة والشجاعة والاخلاص.. ليهيلها على جمال عبد الناصر في اندفاعة ثورية مليئة بالأمل والتفاؤل والثقة بحتمية النصر والتحرير:
«فتى العروبة، حيّاك العلى فلقد |
|
أحييت فينا معاني الجِدِّ والحزما |
إلى أن يقول:
«يا أيها الحر، قد آمنتَ إذ كفروا |
|
بأمّةٍ، قلبها من كفرهم يُدمى |
ومثل بقية الشعراء يتغنى فهد إبراهيم بالمدن العربية وما يحمله تاريخها من تراث وإشعاعات حضارية، غير أن ما يميزه عن غيره هو تفاؤله البعيد عن البكاء والحزن والأسى، وهو ما كنا نلاحظه عند غير شاعر من شعراء عكار. يقول متفائلاً:
«يا فارس الساح مات الحق في وطني |
|
مذ ضيّع الساح أبطالاً وفرساناً |
وهو إلى ذلك يستحضر الرموز العربية عبر التاريخ كبدر واليرموك والقادسية وحطين.. وتتكرر في شعره صور خالد بن الوليد والمثنى وصلاح الدين، وغيرهم من ابطال الأمة ورموزها وهو ما جعله يوفق بين الشاعر الرمزي بكل ما يعنيه من تأمل وإيحاء ودلالة وبين الشاعر المنبري بكل ما يحمله من حماسة واندفاع وإثارة. وهي صفة لا يجاريه فيها إلا شاعر آخر من عكار هو الشاعر توفيق جرجس بربرالذي يذهب إلى الموضوعات نفسها، باللهجة نفسها وبالنكهة البنيوية نفسها. يقول في مطلع قصيدة بعنوان: «بين محمد وناصر».
«قم يا محمد واشهد نهضة العربِ |
|
تشهد «لناصر» بالإقدام والغلب |
وهو، وبعد أن يمعن في مدح جمال عبد الناصر ينهال بأقبح النعوت على الصهاينة ومن جاراهم ووالاهم من العملاء الرجعيين فيقول:
«إن كان “صهيون” في أخلاقه حطباً |
|
فنحن نار وما للنار كالحطب |
وهكذا نلاحظ أن توفيق بربر يوافق الآخرين في تفاؤلهم وثقتهم بحتمية الانتصار كما في تغنيه بأمجاد الأمة عبر التاريخ، بل إنه يتحد معهم في وحدة شعورية متماسكة في منطلقات أحاسيسها وعواطفها وأحلامها وآمالها. يقول متباهياً ومتفاخراً:
«فليعلم الغرب أن الشرق مرجعه |
|
ومطلع الشمس والأقمار والشهب |
ولعل اللافت هذه الوجوه البلاغية المكثفة ومنها هذا الحشد من الكنايات المحببة التي تساعد على إطلاق العنان لصور وتخيلات مريحة للنفس والذهن بكل ما فيها من حسن تعبير وأداء.
أما المطران أبيفانيوس زائد مطران الروم الأرثوذكس في عكار، فينبري لفضح اليهود وكشف اللثام عن نواياهم وأحقادهم فيقول:
«ركب اليهود هواهم واستكبروا |
|
وعلى الشعوب تآمروا وتضافروا |
هم زمرة الشيطان والطغيان همّهم السيادة والنفوذ الأكبر |
||
نقضوا عهود الله وانحرفوا بها |
|
واستسلموا لغرورهم وتطوروا |
صلبوا المسيح لأنه لم يرضَ عن |
|
أعمالهم فتجاهلوه وأنكروا» |
ونلاحظ أن القصيدة تحوم في أجواء المفاهيم الدينية ومصطلحاتها ومفاهيمها، بل هي منبثقة من الدين نفسه ولذلك غلب عليها حقل دلالي معجمي واحد، الأمر الذي يجعلنا نلمس صدق المشاعر والأحاسيس عند قائلها، كما نلمس العفوية في الكلام والبساطة وعدم التأنق.
أما الدكتور حسن نمر دندشي فيجنح إلى ما جنح إليه الآخرون من إثارة وحماسة وتفاؤل رغم سريان الطروحات القائلة بأن الشعب نائم.. والشعب صامت لا حراك له، وما هو من قبيل إشاعة اليأس في النفوس، فيرد على ذلك قائلاً:
«آمنت بالشعب، إن الشعب يقظان |
|
فلا يُغرَّ بأن الصمت خذلان |
ثم يروح يحذر المستعمرين من ثورة الشعب العربي المقبلة والتي ستكون زلزالاً تحت أقدام الطغاة دون أن يوفر الأنظمة العميلة من جام غضبه وسخطه.. ولقد فصل حسن دندشي بين شعره القومي وشعره الوجداني فصلاً واضحاً وإن كان قد برع في الشعر الوجداني أكثر من غيره، كما سنرى.
كانت هذه أهم الملامح من النفحات القومية والوطنية في عكار في هذه الحقبة، وهي نفحات جاءت لتؤكد إيمان العكاري بعروبته وثقته بأمته واخلاصه لوطنه الذي غالباً ما كان يعاهده على التضحية والفداء وبذل الغالي والرخيص في الذود عنه وعن كرامته وعنفوانه وعزته.
وهذه النفحات عكست لنا وحدة المشاعر والأحاسيس عند العكاريين على اختلاف فئاتهم ومشاربهم حتى لكأننا أمام قصيدة قومية واحدة. إذ لا خلاف في المفاهيم والمعاني والمنطلقات كما لا خلاف في الغايات والأهداف والنتائج.. وفي الوقت نفسه عكست هذه النفحات تفاعل العكاري مع القضايا القومية والوطنية تفاعلاً تميز بالحيوية والحماسة والاندفاع.
الشعر الوجداني والغزلي:
ولعله يأتي في المرتبة الثانية كماً ونوعاً عند الشعراء العكاريين. ولعل في طليعة البارزين فيه الدكتور حسن نمر دندشي وفهد إبراهيم وجبران نادر، وجورج زيتونة، ومحمد حبلص، وغيرهم. وإذا كنا نجد عند العكاريين من التزم في نظمه الشعر الوطني والقومي دون سواه فإننا لن نجد في الغزل من التزم هذا الباب دون غيره، فشعراء الغزل كتبوا في الوطنيات والقوميات ايضاً وربما في أغراض أخرى أحياناً. أما الميزة الأكثر بروزاً عند الغزليين العكاريين فهي بعدهم عن الاباحية والخلاعة والشعر الفاحش، وبالإجماع. فغزلهم غزل عفيف بشكل عام، نادراً ما يتطرق إلى مفاتن الجسد عند الحبيبة وأن تطرق أحياناً فدونه العورات والعيوب. وما إلى ذلك… ولعل هذه الميزة انطبعت في نفسية العكاري من بيئته الريفية العكارية التي لا تزال تقاوم زحف المدنية الحديثة وتتقي آثارها.
ولنا مثال على ذلك من حسن دندشي الذي يقول:
«نحن أهل الحب منا |
|
كانت الرسل وفينا |
وإذا كنا نلاحظ حرصه على إظهار ايمانه بالله وتفاخره بهذا الايمان، فلا نبالغ إذا قلنا إن الشعراء العكاريين هاموا بقضايا الأمة والوطن أكثر بكثير من هيامهم بحبيباتهم أو ربما امتزج الحبّان معاً وتماشيا كما نلمح ذلك من إحدى قصائد حسن دندشي متغزلاً بأستاذة الفلسفة عندما كان تلميذاً عندها فيقول:
«درِّسينا درِّسينا |
|
ألغزالي وابن سينا |
||
|
نحن من أجلك جينا |
|
||
ألفرابي ألمثالي |
|
ضاع في إثر الغزالي |
||
نحن في الصف ولكن |
|
اسألينا تعرفينا |
ولقد امتازت قصائد الدندشي الغزلية بالقصر وبأوزانها القصيرة والمجزوءة في غالب الأحيان، كما أنه وفي الغزل غلبت القصيدة الحديثة من حيث الوزن وشروطه على القصيدة العمودية في ديوانه والى ذلك، فعباراته وجمله جاءت بسيطة سهلة لا غرابة فيها ولا غموض، كقوله:
«على الساقيات قفي ودِّعي |
|
وما الساقيات سوى أدمعي |
وقد يحاول أن يرسم صورة لا تخلو من إبداع عندما يقول:
«نحرتُ الفؤاد ووزعْتُهُ |
|
فبعض لديك، وبعض معي |
أما الشاعر فهد إبراهيم فيحرص على إظهار الجانب الأخلاقي في حبه وطهارة قلبه وسلامة نواياه رغم أن هذا الحب قد استبدّ به وكاد يودي به إلى الهلاك:
«أغالب حباً ناشئاً حلّ في قلبي |
|
وأَفعم روحي بالأسى وسبى لبّي |
وهو وإن استوحى بعض معانيه وصوره مما عرف وشاع في الموروث الشعري العربي منذ القدم، إلا أنه يسكب ما استلهمه بقوالب جديدة بعد أن يعيد صياغتها وفق مقتضيات العصر وما أخذ منه من ألفاظ ومفردات حتى جاءت قصائده، بشكل عام، من الوضوح والليونة بحيث لا يحتاج معها القارئ أو السامع لأي جهد أو عناء حتى يستطيع فهمها أو تلقي أهدافها وغاياتها.
وبخلاف الشاعر حسن دندشي، فإن فهد إبراهيم لم يكتب القصيدة الحديثة أو يحيك على منوالها رغم أنه عايش موجة «الشعر الحديث» التي انطلقت أواخر الاربعينات من القرن العشرين الميلادي.
ومثله في ذلك مثل الشاعر جبران نادر الذي ينحاز إلى القصيدة العمودية انحيازاً واضحاً في عموم شعره ومنه الغزل الذي تميز فيه بالصورة التي جاءت أكثر إشراقاً وبالخيال الذي جاء أكثر انفلاتاً وانعتاقاً. يقول من قصيدة بعنوان: «حلم الأصيل»:
«للشمس أم لجبينها الوضّاح |
|
ما قالت الأرواح للأرواح |
إلى أن يقول:
«وغزالة يسبي العقول بهاؤها |
|
مزهوَّة بفتونها المنداح |
وهكذا، نجد أنفسنا أمام لوحة رائعة من ثلاثين بيتاً لعل أروع ما فيها هذا التزاوج بين الصور البدوية القديمة والصور النفسية المعاصرة، كما هذه المواءمة بين التشبيهات المحسوسة المألوفة، وهذه الصور المعنوية الحديثة المبتكرة. وهذا وذاك زينهما الشاعر بألفاظ امتازت بالفخامة والجزالة مع أنها سهلة وواضحة وبعيدة عن الغرابة والتعقيد إلا ما جاء عفو الخاطر..
ليس هذا فحسب، بل ما يلفت النظر ايضاً هذا الحشد المتجانس أيضاً للمعاني التقليدية والأخرى الجديدة والتي تناولها الشاعر من واقع البيئة الجغرافية والاجتماعية التي يحياها..
وإذا كان جبران نادر قد وسم شعره بهذه اللمحات الساحرة، فإن الدكتور مصطفى عبد الفتاح يحاكيه في قصيدة رائعة أيضاً وقد جاء فيها متغزلاً:
«أطلَّت في رقيق من ليان |
|
يميل الخصر مثل الخيزران |
وإذا كانت الألفاظ، كما نلاحظ، تأسرنا بليونتها وانسيابها الهادئ المتلاحق فإن ما امتازت به القصيدة أيضاً هو هذه الموسيقى الناعمة الهادئة التي تبث فينا حبوراً داخلياً تتابعت موجاتها دون صخب ودون توقف. وعلى وقع هذه النغمات يقول من قصيدة أخرى بعنوان: «سجن العاشقين»
«دقَّ الفؤاد لرؤياها، فما العمل |
|
وانكبَّ يحلم، يقظاناً به خبل |
وعلى هذا النحو، يسهب في بث الشكوى والوجد والشوق وما أصابه من البعد والهجر والجوى، إسهاباً تتابعت تفاصيله وتناثرت معانيه كما تتناثر أنفاس العاشق المخلص الولهان ولا تتوقف إلا عند الانتقال إلى التعهد على الوفاء والإصرار على الوصل وحتميته. فيقول:
«ما انفك يعشقها لا يرتجي بدلاً |
|
فهي الأساس وبئس الغير والبدل |
والقصيدة من ثلاثين بيتاً من الغزل العذري العفيف والمخلص، تدفقت بين ثناياها أحاسيس دافئة غير أنها انهمرت بغزارة بعيداً عن التصنع والتزييف والافتعال… وهي وإن استلهم صاحبها معاني الشعر العذري وأفكاره، غير أنها، بحق، قصيدة معاصرة بالدرجة الأولى ابتعدت عن البداوة وصورها.. ونأت عن الغرابة وغموضها. فكانت أقرب إلى السهل الممتنع في أسلوبها، وبمتناول الذهن والقلب في أفكارها ومعانيها.
أما المحامي جورج زيتونة فيبدو في قصائده الغزلية أكثر جرأة في وصف مفاتن الجسد ومواطن الجمال فيه… دون أن يتعدى الحدود إلى الإباحية أو المادية المفرطة. وقد يضم في القصيدة الواحدة الصور العذرية إلى الصور المادية.
كما في قوله بعنوان «هذي حياتي»:
«أهي الرؤى، أو ما ترى العينان |
|
عند الغدير، على الصبا الريّان |
وشيئاً فشيئاً يتدرج إلى الصور الحضرية فيقول:
«طبع الصباح على النديّة قبلةً |
|
فرحتْ بها الأنسام في الوديان |
وعلى هذا النهج من الخلط بين الغزل البدوي والآخر المادي، يسير جورج زيتونة في معظم قصائده والتي غالباً ما يبدأ بها عذرياً ويتدرج إلى المادية كقوله:
«مثل الغزال إلى مجاري الماء |
|
ترنو وتعدو في البعيد النائي |
والقصيدة على البحر الكامل ما عدا البيت الثالث، فقد جاء على بحر الرجز، وهو خطأ وقع فيه عدد كبير من الشعراء المتأخرين في أحيان كثيرة نتيجة لتقارب التفعيلات بين البحرين المذكورين وجوازاتهما.
وهو يخلص في هذه القصيدة إلى التعبير عن نفسية الشاب العربي، بشكل عام، والتي تفضل الجمال المقرون بالعفة والفضيلة، فيقول:
«فإذا الفضيلة في الجميلة أشرقت |
|
يرقى الجمال إلى ذرى العلياء» |
مما يؤكّد لنا إخلاص الشاعر وصدقه وعفويته وهو يطلق لقلمه العنان في رسم مشاعره أبياتاً تنضح بالجدة والابتكار ولا تخلو من إبداع وتفنن وتجدد. وقد لا يعوز أن نعرف أن صاحبها من منطقة عكار أو ما يشبهها نظراً لما ساد حقلها المعجمي من دلالات على جمال استوطن «الأودية» و«الشطآن» و«الجداول» و«الجبال» و«التلال» و«السهول» وغير ذلك من الجمال المتضوّع في عكار في كل صوب وناحية. ومثل ذلك نجده في غير قصيدة للشاعر ولا سيما في قصيدة «إليها» و«إلى من» و«مثل الغزال»، وغيرها.
والى الغزل الممزوج بالعذرية والمادية تترنح قصائد الشاعر محمد حبلص الذي فصل قصائده الغزلية عن الوطنيات والقوميات وجمعها في ديوان خاص بها وسمه «ترنيمة القلب». يقول من قصيدة بعنوان: «قوامك»:
«قوامكِ يسلب مني الهدى |
|
ويدفع بي نحو مهوى الردى |
وقد يتطرف إلى أبعد قليلاً في الوصف المادي وأثر الجمال الجسدي على النفس المتهالكة عليه، تماماً كما الأثر على العذري من البعد والهجر والنوى، وقد لا يكون ذلك مألوفاً في العقلية الشعرية العربية، التي عبر عنها رافع راية الحب المادي فيها عمر بن أبي ربيعة إذ قال: «… فإن كرهته فالسلام على أخرى» أما «القوام» فلا أحد يعتقد أنه يبعث على «الجنون» و«الضياع» و«الفناء» وما هو من قبيل ذلك.
وفي قصيدة أخرى يعود محمد حبلص ليُلبس القصيدة العذرية ثوبها العذري المعهود بألفاظ رصينة فخمة وجزلة، وبصور على غاية في الروعة والجِدّة والابتكار. يقول في قصيدة مطلعها:
«يا حبيباً عزَّ فانتقما |
|
كم سبى روحي فما رحما |
وبهذا الانسياب الهادئ والرصين للصور.. يقول:
«إنني لقياك مرتقبٌ |
|
وكأني أرقب العدما |
وقد يستمد صوراً من الماضي أو من المفاهيم الشائعة ويضعها في قالب معاصر. كقوله:
«إن «لا» من فيكَ تذبحني |
|
في الهوى. هلاّ غدتْ نَعَما |
وهكذا رأينا كم في هذه القصيدة من عواطف مرهفة جاءت بدون تصنع، وكم فيها من تخيلات لم تكن جامحة بقدر ما ابتعدت عن الايغال في الرمزية المفرطة والتعقيد المبهم.
ولعل اللافت في ديوانه، هذه الثنائيات الحادة ما بين شعر حديث وآخر تقليدي، وما بين قصائد عذرية وأخرى مادية، فضلاً عن قصائد عديدة جاءت مزيجاً من النوعين معاً. وقد لا يتورع عن تحويل الغزل بإحداهن إلى هجاء لاذع في قصيدة أخرى. كقوله:
«أنتِ الغباء، رفضتِ المجد والأدبا |
|
وغرَّكِ الزخرف الوهميّ واعجبا |
ولعله لم يستطع التوفيق بين حبه الشخصي وميوله القومية، فقال لها:
«غنّاكِ قلبي زماناً صار منعدماً |
|
واليوم عاد يغني الأرض والعربا |
وقد يجعل من القصيدة نفسها معرضاً للفخر والتغزل بنفسه، كما هي أداة للتهجم عليها ونعتها بأوصاف توازي ما يحمله من غضب وسخط وربما حقد أيضاً.
كانت هذه أهم الخطوط العامة العريضة التي سارت في مجاريها نفحات العكاريين الغزليين بكل ما حملته من مشاعر وعواطف وأحاسيس. وهي نفحات جاءت لتؤكد بدورها، سلامة الطوية التي يحملها العكاري بكل ما فيها من طهارة في النفس وبراءة وعفوية وما بين هذا وذاك من إخلاص ووفاء وشهامة.
متفرقات أخرى:
إذا كنا قد جعلنا شعر العكاريين ينصب في مجريين عامين هما: الوطنيات والغزليات، فهذا لا يعني أنه لم يكن يجري بموازاتهما وعلى ضفافهما جداول أخرى من فنون الشعر وأغراضه. كالمدح والرثاء والتوسل وغير ذلك من قصائد المناسبات والمساجلات المتنوعة والمتعددة. غير أننا في هذه الأغراض لن نجد في عكار من اختص بها أو حتى من أكثر منها وأغزر. فبالكاد نعثر على قصيدة لهذا الشاعر أو ذاك في مثل هذه الأغراض والمنازع. كرثاء الشاعر محمد حبلص للإمام محمد مهدي شمس الدين بقوله:
«شمس العروبة، شمس الدين والنور |
|
لا تتركينا حيارى في الدياجير |
وهي قصيدة رائعة من حوالي عشرين بيتاً لا يعيبها سوى أن الشاعر بدأ بمخاطبة الفقيد «بشمس» وبقي يؤنثها في غير بيت من القصيدة.. أما المجاهد الشيخ أحمد ياسين فيرثيه بقصيدة حديثة حمّلها الكثير من الطاقات والايحاءات التي عبر عنها بالاستعارات والكنايات، وغير ذلك:
«نموت وقوفاً
نموت على صهوات الجياد
ولا نقعد…
نموت ولسنا نبالي
هو الموت في عرفنا مولد»
وإذا كان هذا الرثاء ممزوجاً بعواطف وطنية وقومية ودينية عامة، فإن رثاءه لوالده بدا فيه أكثر عاطفة وتفجعاً وتحسراً… جاء في مطلع هذه القصيدة:
«أيا راحلاً، فوق الأكف، مشيَّعاً |
|
تمهل فإني لا أُطيق التفجعا |
وعلى هذا النحو من الحزن والكآبة لاحظنا كيف تحققت الوحدة التأليفية في القصيدة وكيف انسجم في أبياتها ومقاطعها الحقل الدلالي المعجمي بعد أن طغى عليها ما أصاب الشاعر من فراق، فلمسنا بوضوح صدق عواطفه التي انسابت بعفوية ودون تصنع أو استئذان..
أما في المدح، فقد عثرنا على قصيدة للدكتور مصطفى عبد الفتاح يتوجه فيها مادحاً الشاعر جبران نادر ومطلعها:
«جبران دوح باسقُ الأفنان |
|
ملأ الزمان بشعره الفتان |
وبعد أن يهيل عليه ما استطاع من صفات النبوغ والشاعرية وسحر البيان ونخوة الفرسان.. يعود الشاعر ليراه مظلوماً في هذا النظام الذي لا يعرف عدلاً وإنصافاً:
«آن الأوان لينصفوك عدالة |
|
ومكانة ببرامج الشبان |
ولعله القهر الذي يشعر به العكاري حتى وهو يمدح أو يرثي أو يتغزل.. وهو المعنى نفسه الذي نلمحه من وراء السطور أو من بين الكلمات والمعاني في مدح عبد الكريم حبلص للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، إذ يقول:
«في حقلنا المهجور سنبلة فريده
نبتت برغم البرد والنذر الرهيبه
شمخت بوجه الليل تمتشق الضحى
لتصدّ حرّ الصيف، والريح العنيده»
إلى أن يقول له مستبشراً:
«رحل الظلام بجنده
والكون يولد من جديد
ويلوح طيفك من بعيد
عيناك نافذتان في جُدُر السجون
ما زال في جسدي بقيّه
للحب للعشق الخصيب
ما زال صوتك والعِمامه
أملاً يشع في الدجى..»
والقصيدة طويلة تزخر بالكثير من الطاقات النفسية.. وقد لا يترك الشاعر فكرة أو إشارة تلامسان قيم الفروسية والبطولة وتخطران على باله.. إلا ويهيلهما على قائد المقاومة بأسلوب رمزي لا يخلو من إشراق وبلاغة وإبداع:
«وتظل يا «حسن» المسيرة، والمسارْ
يا شتلة التبغ المرابط في ثنيّات البذار
يا درة الشرق الجريحْ
يا فيض أحمد، والمسيحْ
يا منبر الإخصاب في الحقل الفصيحْ»
أما شعر التأمل والحكمة فقد برز فيه المطران أبيفانيوس زائد، بشكل لا يضاهيه أحد من العكاريين في هذا المضمار. على أن شعره في التأمل والحكمة غير منفصل عن شعره الديني بشكل عام. ففي قصائده نفحة إيمانية امتزج فيها التوسل والدعاء بالحكمة والتأمل ومدح السيد المسيح، عليه السلام. يقول في إحدى مقطوعاته:
«سوف تمضي مثل جسمي صورتي |
|
أي شيء دام في مجرى الزمان |
على أن تأملاته نابعة من المفاهيم الدينية وتندرج في إطارها كقوله:
«لا تمل مع كل ريح |
|
واجتنب وعر الطريقْ |
وتغمر النفوس بالثمار |
|
وتملأ القلب هدى ونورا» |
ولعل المطران زائد، قصد قصداً إلى هذا الأسلوب السهل الذي لا يتمنع على فهم الناس جميعاً مهما تدنى مستواهم في الفهم والاستيعاب.. ومن ذلك قوله:
«زاد على زاد إلى أن تنتهي |
|
أيام أسفاري بيوم مماتي |
واللافت للنظر أن يقوم الشاعر توفيق جرجس بربر وينبري متغنياً بالإسلام والقرآن مازجاً بين نظرته إلى الدين الإسلامي ومشاعره القومية فيقول:
«طالعت قرآن النبيّ فراقني |
|
ما فيه من سور ومن آيات |
وفي قصيدة أخرى يلجأ إلى الإيجاز البليغ والإيحاء الرمزي والى كل ما استطاع من صور قديمة وحديثة وهو يمدح النبيّ محمداً قائلاً:
«خلَّفت للعرب يا باني حضارتهم |
|
إرثاً كمجدك معصوماً من العطب |
وهكذا نرى أن توفيق بربر كان قومياً عربياً بكل صفاء ونقاوة، على عروبته يقيس الأمور والأشياء من حوله، ومنها ينطلق محلّقاً في آفاق بعيدة عن الأطر الطائفية الضيقة أو الإقليمية العاجزة والفاشلة.
أما الشاعر المحامي جورج زيتونة فينهض إلى الحكمة وإلى التأمل في زوايا النفس وما قد تستطيعه ويعجز عنه الدهر. فيقول:
«ما هدّه الدهر لا يشفيه زهّار |
|
النفس تشفي، ولا يشفيك عطّار |
أما الخوري نايف اسطفان فيتأمل في زوايا نفسه وحاله ولكن من زاوية مختلفة، فيقول:
«ودَّعت أمسي في رؤى مستقبلي |
|
فسرتْ بنفسي حرقةٌ لا تنجلي |
ودّعتُ أمسي واتجهتُ إلى غدي |
|
فوجدت نفسي في الحياة بمفردي |
فيجيبه عليها الدكتور مصطفى عبد الفتاح قائلاً:
«أنا لا أقول الشعر حباً بالكلام وبالكتابة
أنا لست ممن يكتبون طلاسماً فيها الغرابة
أنا قادم من ظلمة الكهف المكدّس بالتخلف والتزلف والتأفف..
والتوهن والتعفن
واهتراء النفس والأمل الممزّق والكآبة..» وللدكتور مصطفى عدة قصائد في الوصف، كوصفه لتواضع البنفسج والربيع، وسحر الفصول وغيرها، يقول في وصف الربيع:
«ترى في الربيع صفاوة الزرقاء |
|
والبدر محتدماً بدون عناء |
وهكذا في لوحة متكاملة من الأوصاف والتشابيه التي التقط معظمها من مناطق عكار المتنوعة والمتعددة في أشكالها وألوانها وأنواعها، كما التقط بعضها مما كان يؤثر في صفات ومواصفات الشعراء القدامى في الوصف ثم عمد إلى إفراغها في قالب شعري جديد متماسك وعلى شيء من إبداع وابتكار وحسن أداء وتعبير.
والى مثل هذا الوصف ينهض جبران نادر فيقول:
«عصف النور بالظلام المرائي |
|
ماسحاً بالضياء وجه السماء |
ولعل اللافت في هذه القصيدة هو كثرة الوجوه البلاغية فيها التي جاءت على تأنق هادئ وغير مفتعل ولاسيما احتشاد الاستعارات والتي بدورها انسابت موافقة لمقتضى الحال دون تزييف أو إسفاف. ناهيك عن بعض الصور والتخيلات التي انبسطت لها النفس في أبيات تتدلى كشلال إلى أعماق القارئ بلطف وهدوء وسكينة.
خــلاصــة:
من كل ما تقدم، نستطيع القول إن في عكار براعم شعرية ما تزال في بداية تفتحها وانطلاقها.. غير أنها بداية واعدة وفي مستقبل قريب إن شاء الله.
وهذه البراعم، كما رأينا، تنوعت في مشاربها ومناحيها، وإن كانت جميعاً ملتزمة بقاسم مشترك واحد يجمعها في بوتقة واحدة تقريباً من المشاعر والعواطف والأحاسيس. ولا غرو في ذلك، إذا كان المناخ الذي يرفرف في أجوائه خيال الشاعر وتصوراته هو مناخ مشدود إلى بيئة محكوم عليها بالإهمال والحرمان والاجحاف، وفي الوقت نفسه حباها الله بكل فتنة وسحر وجمال. وربما لهذا وذاك، كنا نرى أنفسنا أمام قصيدة عكارية واحدة، وكنا نلاحظ أن العكاري يئن لكل هم ويثور لكل قضية ومن جهة أخرى، فهو مرهف الحس والقريحة لالتقاط كل ما يبعث على الجهاد والحق والجمال والحرية وفضائل النفس ومكارم الأخلاق.
«انتهـــى»
د. محمود حمد سليمان (عكار العتيقة)
[1] – محمد حبلص: زئير العاصفة، ص 65.
[2] – محمد حبلص: المصدر نفسه، ص 38.
[3] – محمد حبلص: المصدر نفسه، ص 143.
[4] – محمد حبلص: قصائد متمردة، ص 13.
[5] – فهد إبراهيم، المصدر نفسه، ص 401.
[6] – المصدر السابق، ص 109.
[7] – قصيدة نشرت في إحدى الصحف.
[8] – حسن دندشي: المصدر نفسه، ص 18.
[9] – فهد إبراهيم: عربي أنا، ص 436.
[10] – مصطفى عبد الفتاح: المصدر نفسه، ص 123.
[11] – محمد حبلص: المصدر نفسه، ص 135.
[12] – شعراء النصارى العرب: المصدر السابق، ص 108.
[13] – انظر كتاب: عكار الثقافي، ص 90.
[14] – مصطفى عبد الفتاح: التوأم الثاني، ص 19.