ودعت الاشرفية ظهر اليوم الضحية آن ماري عبد الكريم، ذات الخامسة عشرة ربيعا التي قضت في انهيار مبنى فسوح، وسط دموع الحزن والحسرة والاسى واطلاق المفرقعات النارية وقرع الاجراس.
انطلق موكب الفقيدة يتقدمه حملة الرايات والصلبان والكشافة من مستشفى القديس جاوجيوس للروم الأرثوذكس في الأشرفية متوجها الى مدرستها زهرة الإحسان، وقد لف نعشها بعلم كشاف رعية دخول السيدة للروم الأرثوذكس -الأشرفية الي كانت عضوا فيها كما وضع عليه قميصها في فريق كرة السلة في المدرسة زهرة الإحسان. أدخل النعش الى ملعب المدرسة في زيارة وداعية ولإلقاء النظرة الأخيرة على الصرح العلمي الذي تلقت علومها فيه ولوداع رفيقاتها ورفاقها ومعلميها، ثم توجه الى أمام ركام منزلها، فكان في استقبالها جيرانها ومحبيها وسط جو من الحزن والأسى على فقدان زهرتهم الصغيرة ووسط إقفال للمحال التجارية المحيطة.
بعدها انتقل الموكب الى كنيسة دير دخول السيدة حيث سجيت قبل توجهها الى حضن الأب السماوي.
وترأس مطران بيروت لطائفة الروم الأرثوذكس المتروبوليت الياس عودة الصلاة لراحة نفس آن ماري يعاونه لفيف من كهنة أبرشية بيروت للروم الأرثوذكس في حضور النائب هاغوب بقرادونيان ممثلا رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي ومجلس الوزراء، النائب عاطف مجدلاني ممثلا الرئيس سعد الدين الحريري، وزراء: الثقافة غابي ليون، الإتصالات نقولا صحناوي والصناعة فريج صابونجيان، النواب: نديم بشير الجميل، ميشال فرعون، جان اوغاسبيان، سيرج طورسركيسيان وتمام سلام، النائب السابق ميشال ساسين، رئيس صندوق المهجرين فادي عرموني، يمنى بشير الجميل، مسعود الأشقر، رئيس الرابطة الأرثوذكسية نقولا غلام، خليل برمانة، منسق بيروت في التيار الوطني الحر ميشال دو شادرفيان، مخاتير منطقة الأشرفية والصيفي والرميل، اضافة الى أهل وأقارب الضحية وشخصيات عسكرية ودينية وسياسية وفاعليات الأشرفية والرميل والصيفي، ورفاق الضحية في المدرسة وكشافة رعية دخول السيدة-الأشرفية وفريق كرة السلة.
عودة
وبعد تلاوة الإنجيل المقدس القى المطران عودة عظة قال فيها: “باسم غبطة أبينا البطريرك إغناطيوس الرابع وباسمي الشخصي وباسم إخوتي الكهنة أقدم العزاء إلى والدَي آن ماري وعائلتها، سائلا الرب الإله الذي كان تعزية آن ماري أن يبلسم قلوبهم ويخفف ألمهم. لقد اتصل بي صاحب الغبطة وسألني أن أنقل إليكم حزنه على المأساة التي حلت وتعزيته العميقة، وأمله أن لا تتكرر مثل هذه الكارثة”.
أضاف: “نحن نصلي الآن من أجل راحة آن ماري الإبنة المؤمنة التي كان المسيح مركز حياتها وغايتها. المسيح الإله كان هو الذي يسود على كل تصرفاتها وكان همها أن تحصل على رضاه. شوقها الدائم إلى المسيح جعلها لا ترى حدود الموت والحياة الآتية. كانت تشعر أن الموت جسر سوف تعبره في لحظة واحدة لكي تتابع حياتها مع المسيح. هنا على الأرض هناك عوائق شتى تحاول أن تقف بينها هي المؤمنة وبين المسيح، لكن إيمانها القوي كان يساعدها ويعزيها. وبعد الموت لا حاجة إلى الإيمان لأنها ترى المسيح كما كانت ترى الشمس”.
وتابع: “لقد اختبرت الحياة في المحبة ورأت بوضوح الرب المحبوب وكأني بها تصرخ صراخ المغبوط أوغسطينوس: «أحبك أيها الرب إلهي وأتمنى أن أحبك دائما، وأكثر بكثير لأنك أنت في الحقيقة أحلى من أفضل أنواع العسل وأشهى من أفضل حليب وأشد ضياء من كل نور، لأنك أنت لي أغلى من الذهب والفضة ومن الجواهر الكريمة”.
وأكد ان همها كان “أن تبتعد عن الشر وتنظر إلى المسيح الذي بحسب معرفتها يسكب محبته في قلبها ويجعل حياتها صالحة ومبعثا للنور والفرح، وكانت تدرك أنها لا تحصل على الحرية إن لم تحرر داخلها من كل اضطراب وهوى، والمسيح وحده يحول الإضطراب والهوى إلى فرح، وهو يعتني ويهتم بها ويحترم حريتها ولا يفرض شيئا عليها”.
وقال: “آن ماري، هذه الزهرة التي لم يكتمل تفتحها بعد، قضت ضحية للاهمال. كانت أحلامها كبيرة، وطموحها عظيما، لكنهما دفنا تحت أنقاض منزلها، ورحلت الصبية إلى ملكوت الله الذي كان هدفها الأسمى، بعد أن تكون أفضل لاعبة كرة سلة في لبنان، وطبيبة أسنان، كما كتبت بنفسها على استمارة وزعتها الرعية على أبنائها عنوانها «عرف عن نفسك
أضاف: “محزن جدا فقدان الأحبة. لكن المحزن أكثر اليوم ان الفقيدة في مقتبل العمر، ولم نكن لنفقدها لولا انهيار المبنى الذي كانت تقطنه مع عائلتها. لا أريد أن ألقي باللائمة على أحد، لكنني أتساءل كما يتساءل عامة الناس اليوم: من المسؤول؟ وهل حياة الناس أصبحت بهذا الرخص؟ والمحزن المبكي اننا منذ الحادثة الأليمة، لا نسمع إلا توقعات عن حوادث مشابهة قد تقع في عدد كبير من المباني القديمة، أو في جسور وطرقات؛ ولا نقرأ في الجرائد إلا عن شرفات تنهار وبنايات في خطر”.
وسأل: “أين الدولة من كل هذا؟ أين البلديات؟ أين الإدارات المسؤولة عن الكشف على المباني القديمة وتحديد المخاطر قبل وقوعها؟
وقال: “من سوء حظنا أن بعض المسؤولين يشكون هم أيضا من رداءة الوضع ويتذمرون من قلة الإمكانات. والسؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن الا يجدر بالجميع، جميع المسؤولين إلى أي طائفة أو فئة أو حزب انتموا، أن يفكروا أولا بمصلحة المواطن وحياته الكريمة؟ ألا يجب عليهم أن يعملوا أولا من أجل تأمين أبسط مقومات الحياة للمواطنين، عوض التلهي بأمور بعيدة كل البعد عن اهتمامات المواطنين ولقمة عيشهم. عند كل كارثة تحصل، يتسابق الجميع من أجل الاستنكار والتحذير واقتراح الحلول. خوفي الكبير، أن تمر هذه الكارثة، كما سابقاتها، وأن ننسى التحذيرات والحلول والوعود. أما الأمل ففي أن تكون هذه الكارثة الأخيرة إنذارا للجميع، كي لا نعاين كارثة أخرى. أملي أن تكون درسا لنا جميعا، دولة ومواطنين، كي نعمل بجهد من أجل تلافي حصول كارثة أخرى وفقدان أحبة آخرين، ومن أجل أن لا يكون دم آن ماري وكل مَن قضى تحت أنقاض المبنى قد أريق هدرا”.
أضاف: “هنا لا بد من التوجه إلى المواطنين الذين يقطنون أبنية قديمة من أجل توعيتهم على المخاطر المحدقة بهم وضرورة الانتباه إلى أي علامة تصدع في بيوتهم قد تكون سببا في الإطاحة بحياتهم”.
وتابع: “أما مالكو الأبنية القديمة، فرغم تذمرهم من بدلات الإيجار القديمة، عليهم أن يكونوا أصحاب ضمير واع وأن يتعاونوا مع المستأجرين ومع الإدارات الرسمية المسؤولة من أجل درء الخطر عن حياة الناس. الإنسان أغلى من المال. انه صورة الله ومسكن الروح القدس، وكل مال العالم لا يساوي حياة إنسان. وإن كان لا بد أحيانا من هدم مبنى غير قابل للترميم، قبل أن ينهار على رؤوس قاطنيه، فالأحرى أن يهدم المبنى كي لا يفرط بحياة إنسان. التراث مهم جدا، لكن حياة الإنسان أهم”.
وقال: “ويا أيها المسؤولون، نحن نصلي في كل قداس إلهي من أجل أن يحفظكم الرب الإله ويعضدكم في كل عمل صالح تقومون به. فلا تقصروا في حق مواطنيكم، واتركوا خلافاتكم وسياساتكم جانبا من أجل أن تؤدوا واجبَكم، وكدتُ أقول رسالتَكم، على أحسن وجه.
وأضاف: “أنتم مؤتمنون على حياة المواطنين وعلى أرواحهم، وهي مسؤولية كبيرة، فرجاء ضعوا هذه المسؤولية نصب أعينكم واعملوا من أجل حسن تنفيذها، وأعتقد أن المواطنين جميعا سوف يلتفون حولكم ويساهمون معكم في بناء هذا الوطن الذي هو وطننا جميعا”.
وأكد انه “قبل حصول كارثة أخرى، لا بد من مسح الأبنية القديمة والجسور والطرقات والحفر، وإنارة الطرقات، وتنظيم السير، وتطبيق قانون السير بصرامة ومعاقبة المخالف كائنا من كان، لأن حياة البشر ليست ملكا لمن احترف السرعة في القيادة أو لمن اعتاد السير عكس السير توفيرا لوقته، على حساب حياة غيره”.
وقال: “ليكن دم آن ماري ورفاقها أمثولة لنا، وحافزا لكي نعمل معا من أجل أن لا تتكرر هذه المأساة”.
وختم: “إلى والدي آن ماري إيلي وفافيولا وأخويها أنطوني وأنطونيلا كل العزاء، على رجاء أن يتقبلها الرب الإله في ملكوته السماوي حيث لا وجع ولا حزن ولا تنهد بل حياة لا تفنى. آن ماري تمجد الله الآن مع الملائكة والأبرار، أما نحن الباقون هنا فنسأل الله أن يرحمنا ويبعد عنا مثل هذه المأساة وأن يجعل وطننا في مصاف البلدان الحضارية الراقية التي تستشرف المآسي والكوارث وتعمل على تلافيها قبل وقوعها، من أجل إنقاذ الحياة”.
بعد تقبل العائلة التعازي في صالون الكنيسة نقل الجثمان محمولا على الاكف الى كنيسة مار متر حيث المثوى الاخير، على وقع المفرقعات النارية وقرع الاجراس ووسط دموع الحزن والحسرة والاسى.
وتتقبل العائلة التعازي بابنتها آن ماري يومي الخميس والجمعة من العاشرة قبل الظهر وحتى السادسة مساء في صالون كنيسة دير دخول السيدة للروم الأرثوذكس في الأشرفية.