في إطار احتفالية “بيروت عاصمة عالمية للكتاب للعام 2009″، تستكمل “مؤسسة الصفدي” فعاليتها الفكرية بالتعاون مع وزارة الثقافة “جامعيو طرابلس: يقرأون، يبحثون ويكتبون”، فكانت ندوتها الخامسة حول “الكتابة الأدبية والنقد الأدبي” في أعمال د. زهيدة درويش جبور، د. ياسين الأيوبي ود. جان جبور، بحضور احتشد في قاعة مسرح “مركز الصفدي الثقافي”، تقدمه النائب الأول لسيادة المطران جورج بو جودة المونسنيور بطرس جبور، مدير المركز الثقافي الفرنسي في طرابلس روبرت هورن، مدير كلية الآداب (الفرع الثالث) د. سجيع الجبيلي، السفير عبد المجيد قصير، المحقق العدلي القاضي نبيل صاري، إضافة إلى العديد من الأساتذة والطلاب الجامعيين، وممثلين لفعاليات ثقافية وتربوية واجتماعية ومهتمون. واستُهلت الندوة بكلمة لمدير المشروع الدكتور مصطفى الحلوة، رأى فيها أنه “على رغم التطورات الدراماتيكية التي يشهدها عصرنا، من موت الإيدويولجيا وصولاً إلى التشكيك في زمن الأدب، يبقى قدر الأدباء: مبدعين ونقاداً أن يستمروا في القبض على جمرِ الكتابة، ففي البدء كان الكلمة!”. وشدد على أن “الكتابة وظيفة ترسّخ العلاقة بين الإبداع والمجتمع. بل هي الذاتي، وكذلك العام المرتبط بأسئلة الإنسان وبأزمات التاريخ الكبرى”.
أعمال د. زهيدة درويش جبور
ثم تولت الطالبات في السنة الثالثة – قسم اللغة الفرنسية (الجامعة اللبنانية-الفرع الثالث): ناتالي موريل الشامي، سارة الخواجة وماريا جريج، باستعراض أعمال د. زهيدة درويش جبور، بالفرنسية والعربية. فتناولت ناتالي موريل الشامي “الشعر والكشف في أعمال ناديا تويني”، بالفرنسية، فرأت ان الكاتبة أفادت من مدرسة النقد الموضوعاتي الفرنسي لتدخل إلى أعماق نص تويني وتكشف عن عالمه الشعري الذي يتمحور حول ركائز ثلاث: الحرب، الموت والأرض؛ وصولاً إلى طرح إشكالية الهوية المركبة وأصالة الإنتماء. وأشارت إلى أن الناقدة جبور تميزت بالجمع بين عمق التحليل وبساطة التعبير وشاعرية الإحساس. علماً أن هذا الكتاب هو الاول من أعمال الناقدة جبور. واستعرضت سارة خواجة، كتاب “دراسات في الشعر اللبناني الفرنكوفوني”، بالفرنسية، الذي يتناول خمسة شعراء لبنانيين في الفترة الممتدة من العام 1936 وحتى أيامنا، فرأت أن هذا المؤلف، المرتكز على نظرة تاريخية وقراءة نقدية يعكس تنوعات كتابية تتميز بغناها وتعدد وجوهها. واعتبرت ان هؤلاء الشعراء (ميشال شيحا، فؤاد أبي زيد، جورج شحادة، فؤاد نفاع وصلاح ستيتيه)، هم وفق الكتابة، مجددون كان همهم تحريك الإنسان وانتشاله من حدرِ اليومي والمألوف، داعيِنهُ إلى أن يتساءل عن نفسه! وعن “التاريخ والتجربة في الكتاب” لأدونيس (بالعربية)، رات الطالبة خواجة أن الكاتبة اعتمدت مقاربة نقدية ترتكز على المنهج الموضوعاتي، ما جعل نصها النقدي معرفياً مشبعاً بجوٍ من التوهج الأسلوبي. وأضافت أن الكاتبة استطاعت عبر تشكلها النقدي الفرنكوفوني ان تقدم دراسة نقدية تستلهم فيها النظريات الشعرية الغربية، ما منح نصها النقدي هالة من العمق والدقة والمتعة. أما ماريا جريج، فقد تناولت كتابي زهيدة جبور “الادب الفرنكوفوني في الشرق الأوسط” و”الفرنكوفونية في مساراتها المختلفة”، (بالفرنسية)، فرأت ان الكتاب الأول يتميز بنظراته النقدية والتاريخية إضافة إلى دوره كوسيط بين الشرق والغرب، ولا سيما لجهة التثاقف بين هذين العالمين. وأضافت أنه يشكل دليلاً شخصياً لاكتشاف مؤلفات مجهولة ومنسية ومهملة. وعن “مسارات فرنكوفونية” قالت أنه يطرح كمادة للتفكر حول مفاهيم الفرنكوفونية وحقائقها، وتحديداً الأدب الفرنكوفوني في الشرق الأوسط، في المغرب وفي افريقيا السوداء. وخلصت: “إن الناقدة جبور ترى ان الفرنسية لغة ناقلةً لثقافةٍ ووسيلة انفتاحٍ على المعاصرة. بل إن الفرنسية تقدم نفسها كسبيل نحو عولمة ديمقراطية ذات وجه إنساني”.
أعمال د. ياسين الأيوبي
ثم قدم أستاذ الأدب العربي في الجامعة اللبنانية – الفرع الرابع الدكتور طلال المير، دراسة بعنوان “ياسين الأيوبي: الناقد المتوهج”، فاعتبر أنه محلل رصين وشارح دقيق وناقد مبدع. وأوضح أن الأيوبي مدّ يديه إلى التراث، متناولاً بعض الدواوين، شارحاً ومقدماً ومفهرساً من دون أن يقتل توهج الرؤيا أو يفلس في تشريح البهاء. وعن كتاب الأيوبي النقدي “محراب الكلمة”، رأى د. المير أن الأيوبي يطوف باحثاً عن الإبداع ومعانقة الجمال من دون ان يحدد رقعة مكانية معينة أو شريحة من زمان، مضفياً صفة المقدس على شرح ناصيف وابراهيم اليازجي، لديوان المتنبي. واستعرض بحث الأيوبي عن شعر السعودي حسن عبد الله القرشي، فرصد صراعاً بين العقل وسلطته من جهة، والهاجس العاطفي وفعل التذكر من جهة ثانية. وختم المير بتسليط الضوء على البعد السيكولوجي في دراسة الأيوبي لرواية “أنّا كارنينا” لتولستوي، فرأى أن دراسته وصلت إلى مستوى هذه الرواية المبدعة،فأتى بطروح جديدة استنتجها بذهنية الباحث وبأحاسيس الشاعر.
أعمال د. جان جبور
أما أعمال د. جان جبور، فقد تناولتها طالبة الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية-قسم اللغة الفرنسية نورما نجم، مستعرضةً الخطاب النقدي لديه في دراسة بعنوان “دراسات عن الشرق في عيون الغربيين بالريشة والقلم”، وذلك عبر كتابيه “الشرق في مرآة الرسم الغربي من القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين”، و”النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربي”. وقد رأت نجم أن جبور يتوقف عند محطة هامة في مسار الرسم الاستشراقي، متمثلة في المعرض الثاني الذي أقيم لهذا الفن عام 1928. فهذه المحطة كانت الأخيرة في مسيرته، ذلك أن الاستشراق الفني، بعد الحرب العالمية الأولى، لم يعد يتمتع بمقومات الحياة وذلك لتطور المواصلات والتصوير الفوتوغرافي. وأشارت نجم إلى أن الكتاب الأول لجبور حافل بالمعلومات الفنية والتاريخية، صاغها الباحث بأسلوب علمي دقيق. ونوهت بجدول اللوحات الخمس والستين المنشورة في الكتاب مرقمة، مع إشارة إلى إسم الرسام وعنوان اللوحة، إضافة إلى تاريخ وضعها في المتحف الذي توجد فيه. وعن الكتاب الثاني (المنشور بعد أحداث 11 أيلول 2001)، فهو يرصد نظرة الغربيين إلى الشرق منذ القرون الوسطى حتى مطلع القرن العشرين، عبر تحليل نماذج ادبية مختارة من الرواية والمسرح وادب الرحلة. وهو يصب في موضوع الاستشراق. ورات أن هذا الكتاب غني باستنتاجاته التي أتت سلبية بمعظمها، حيث يذهب جبور إلى ان غالبية الكتّاب طغى على أحكامها قوالب نمطية جامدة، مكونين عن الشرق صورة خاضعة لأحكام ومعايير مسبقة وغير موضوعية. وعن قاموسه “المنجد الفرنسي-العربي الكبير” (1183 صفحة)، فهو يضم اكثر من 60 مادة من بينها أكثر من 25 ألف مصطلح علمي وتقني. وهذا ما جعل العمل المعجمي ينال الجائزة الاولى في معرض الكتاب العربي الدولي في العام 2008. وقد أشارت نجم إلى ان القاموس يتلاءم مع المتطلبات العصرية في مختلف الحقول العلمية والمعرفية، مستجيباً لاهل الاختصاص كما لسائر الفئات المتعلمة، ولا سيما طلاب المدارس والجامعات، إلى الباحثين والمترجمين.
شهادات الكتّاب درويش، الأيوبي وجبور
أثنت د. زهيدة درويش على العمل البحثي الفريقي الذي تناول كامل أعمالها، ورأت ان “مؤسسة الصفدي” عبر هذه الفعالية الفكرية تسهم من موقع متقدم في الحراك البحثي لدى الطلبة الجامعيين. وعن تجربتها النقدية قالت إنها تصغي إلى النص لجعله يتكلم، مركزة على دور الذائقة الأدبية لدى المتلقين وصولاً إلى ترسيخ قيم الحق والخير والجمال. وأضافت أنها تمحّي أمام النصوص التي تتعاطاها نقدياً لكي تبرز رؤيا كتّابها، معتبرة أن كتاباتها، وهي في معظمها عن الشعر، تأخذ من جسمها، من عصبها ومن قلبها… “إذ لا يمكن التعامل مع الشعر إلا بهذا الاستعداد والتهيؤ”.
وقال د. ياسين الأيوبي: “عبر هذه الندوة، شعرت لأول مرة أنني “فيحائي” أصيل، ولم يكن لدي هذا الإحساس من قبل”. وأشاد بمركز الصفدي الثقافي الذي يشكل حاضرة فكرية وثقافية بامتياز. وعن تجربته الكتابية قال أنه عندما يكتب وينقد، يدخل في حميمية مع النص بل يتماهى معه. ولربما اشتبك مع كاتبه فيسلط عليه نقده من دون هوادة إذا رأى منه ضعفاً او خللاً. وبالمقابل فهو يسعى إلى تجميل النص إذا صادف جماليةً فيه، ويجهد في تلطيف القبح. وعن مؤلفاته السبعين، أشار إلى أنه يكتب بدمٍ وبأعصاب متوترة وبنزف مستمر. بل إن كتاباته جميعها هي عبارة عن صلوات في محاريب.
اما د. جان جبور، فقد أثنى على فعالية مؤسسة الصفدي الفكرية، وقال إن هاجسه كان ولما يزل إماطة اللثام عن الاستشراق الذي درّسه في الجامعة لسنوات، وهو الميدان الذي ينتج فيه كتاباته، ولا سيما الكتابين اللذين استُعرضا في هذه الندوة. وأشار إلى أنه كان بصدد العكوف على وضع كتاب ثالث عن الاستشراق، ولكن الفيلسوف تودوروف سبقه إلى ذلك في كتاب “الخوف من البرابرة، أبعد من صراع الحضارات”. وقال انه يكتفي بترجمته إلى العربية، فيكون وهذا الفيلسوف شريكين في عمل واحد. وانهى بأن المهم أن يبقى الهاجس مسيطراً علينا، خصوصاً إذا اخترنا أن نكون حقاً أساتذة جامعيين.