ليس خافيا على أحد أن مدينة طرابلس هي المدينة المملوكية الثانية في العالم بعد مدينة القاهرة، وأن طرابلس تختزن الكثير من المعالم الأثرية في أرجائها وأن تاريخها يمتد الى الحقبة الفينيقية الكنعانية.
زائر طرابلس سيلحظ من الوهلة الاولى تلك المعالم الاثرية البارزة بدءا من قلعتها الشهيرة التي تشير الى حقبات تاريخية مرت عليها مرورا بالحمامات الاثرية وصولا الى مساجدها المملوكية وابرزها الجامع المنصوري الكبير الذي يرقى تاريخه الى أكثر من 700عام.
وسط مدينة طرابلس القديمة وبين أحياء تعيش تحت خط الفقر الاحمر أشيد الجامع المنصوري الكبير، فبات معلما معماريا أثريا أمر بإنشائه أبن السلطان المنصور قلاوون الأشرف خليل في العام 1294م وأشرف عليه المهندس سالم ناصر الدين الصهيوني العجمي فأنجز بيت الصلاة (الحرم) والباب الرئيسي والمئذنة ثم جاء أبن السلطان المنصور الآخر الناصر محمد بن قلاوون فأمر ببناء الأروقة عام 715 ه. وأشرف على تنفيذها أحمد بن حسن البعلبكي ، أما المنبر الخشبي المزدان بالزخارف الهندسية الاسلامية فأمر ببنائه الأمير شهاب الدين قرطاي بن عبدالله الناصري نائب السلطنة في طرابلس.
هذا الجامع يرتاده يوميا السواح وعلى مدار السنة من كافة أنحاء العالم، لا سيما وأن الجامع يحتوي على ما أطلق عليه “الأثر الشريف” وهو كناية عن شعرتين من أثر النبي محمد أهداهما السلطان عبد الحميد الى الطرابلسيين تقديرا لولائهم للسلطنة العثمانية في تلك الحقبة وقد حملها الى طرابلس أحد الباشوات العثمانيين الذي وصل الى ميناء طرابلس بفرقاطة وأقيم استقبال حافل للأثر الذي وضع في علبة من الذهب الخالص وحملها الشيخ حسين الجسر على رأسه وصولا الى الجامع المنصوري الكبير حيث تم بناء غرفة خاصة له.
هذا الجامع ولأنه من أهم المعالم الأثرية في لبنان والعالم العربي جرى ترميمه بمواكبة مديرية الآثار وبلغت كلفة الترميم حسب ما اوضحه المهندس المشرف على مشروع الترميم اربعة ملايين دولار اميركي واستغرقت أعمال الترميم حوالي سنتين وتسعة أشهر.
أحد سكان سويقة النوري المحلة التي يقع فيها الجامع أعرب “عن تقديره لترميم الجامع بأعتباره معلما أثريا يستقطب السواح من كافة دول العالم لكنه رأى أن الذين يبذلون كرما لا حدود له في ترميم المساجد والرموز الدينية نراهم بخلاء حين يتعلق الامر بالفقراء المحتاجين الى مأوى والى استشفاء أو دواء “.
مواطن آخر محمد زعاطيطي قال: ” أنظر الى هذه الاحياء الفقيرة المحيطة بالجامع هل تعلمين أن فيها فقراء لا يجدون قوت يومهم؟ وأن فيها مرضى يحتاجون للدواء والاستشفاء واذا زاروا مؤسسة او مكتبا لنائب او زعيم سياسي في هذه المدينة فإنهم يتكرمون علينا بخمسين ألف ليرة او مئة ألف في أحسن الاحوال مع كثير من المنية”.
ويتابع: ملايين من الدولارات تصرف على جماد وعلى حجر بينما لم نجد هذه الملايين تصرف من أجل كرامة الانسان ومن اجل صحته او من اجل تعليمه، لم يفكروا بضمان الشيخوخة وبالضمان الصحي الذي سمعنا عنه كثيرا. كل ذلك كي يبقى الفقراء أسرى هؤلاء الزعماء والقيادات وكي يسوقوا الناس الى الغرائز الطائفية والمذهبية بسهولة ” .
المهندس المشرف على المشروع بدوره رأى أن الاعمال التقنية الجارية في الترميم هي اعمال تحصل للمرة الاولى في لبنان لا بل في الشرق الاوسط وجرى حماية الجامع من الانهيارات خاصة ترميم التشققات والاهتراء في المئذنة وجرى ربطها بشعيرات الكربون التي تبلغ قدرة تحملها 35 طنا لكل سنتيمتر مربع، دون التأثير على مظهر المئذنة العام .
ولأن الجامع يقع عند مدخل الأسواق الداخلية بدءا من سوق العطارين الى سوق الذهب وغيرها من الاسواق فقد كانت المياه الاسنة تتسرب الى باحة الجامع عدا عن تجمع مياه الامطار الامر الذي يؤثر على المعالم الاثرية مع مرور الزمن فتم انشاء الحماية بحفر خندق وفرشه بالخرسانة المسلحة ووضع مضخات سحب للمياه.
اضافة الى ذلك فقد جرى ترميم الأروقة الداخلية الحجرية وجميع الخشبيات وتأهيل الحمامات التاريخية.
وجرى إنارة الجامع بمصابيح مصممة على الطراز المملوكي للحفاظ على المعالم التراثية اضافة الى دوائر ضوئية مثبتة في ارض الجامع “. وفي الوقت الذي يشتاق فيه الطرابلسيون الى نور الكهرباء يشعشع المسجد بانارته طيلة الليل وعلى مدار اربعين وعشرين ساعة وكثيرين علقوا بالقول “هذه الكهرباء التي تخصص للمسجد ألسنا نحن أحوج اليها”!!.. “أو يا ليت نور الجامع يمتد لينير طرابلس والشمال كله الغارق في الظلام تحت رحمة التقنين القاسي”!!
الترميم الذي شهده هذا الجامع يثير اكثر من تساؤل لدى الطرابلسيين فبالرغم من أهمية ترميم هذا المعلم الأثري البالغ الاهمية وصيانة لآثار المدينة التاريخية كي تبقى طرابلس مقصدا للسواح وكي تلقى دائما الاهمية القصوى من وزارة السياحة التي لم تول المدينة حقها الكافي من الاهتمام، فإن الكثير من المعالم الثرية تحتاج الى الترميم وكثير من أحياء مدينة طرابلس الداخلية تحتاج الى إعادة إعمار كي تصبح منازل صحية صالحة للسكن تحمي كرامة الانسان في هذه البلاد.
وهذه هي أحياء المدينة فيها الكثير من الابنية التي تحتاج الى ترميم خاصة وأن فيها ايضا منازل أثرية ومنازل تعود الى أكثر من مئة عام وتكتظ بين ارجائها العائلات لدرجة أن الغرفة الواحدة يعيش فيها أكثر من عشرة اشخاص.
فهل نظر أهل الساسة في بلادنا الى هذا الواقع المرير الذي يعيشه ابناء مدينة عريقة تعتبر العاصمة اللبنانية الثانية؟ ومن يصدق هذا التفاوت الخطير بين أحياء المدينة؟.
دموع الاسمر