ترأس البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي قداس الدنح (الغطاس) في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه المطارنة كميل زيدان، حنا علوان وشكر الله حرب، أمين سر البطريرك الخوري نبيه الترس، القيم البطريركي العام المونسنيور جوزف البواري والخوري خليل عرب، في حضور الوزير السابق ابراهيم نجار، النائب السابق مهى الخوري اسعد، رئيس الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم عيد الشدراوي ومدير مكتب لبنان طوني قديسي على رأس وفد من الجامعة، رئيس جمعية تجار جونيه وكسروان – الفتوح طوني بولس مارون على رأس وفد من الجمعية، وفد من قافلة المحبة للامهات السوريات برئاسة منى شكر، وفد من الجامعة الهاشمية برئاسة حبيب الهاشم، قنصل مولدافيا ايلي نصار، مدير التجهيز المائي والكهربائي الدكتور فادي قمير، وفد من نقابة خبراء التخمين العقاري برئاسة شربل قرقماز ووفود شعبية من مختلف المناطق اللبنانية وحشد من الفعاليات والمؤمنين.
العظة
بعد الانجيل المقدس، ألقى البطريرك الراعي عظة بعنوان “وفيما كان يصلي، انفتحت السماوات” قال فيها:”
1. تحتفل الكنيسة اليوم بذكرى معمودية يسوع، المعروفة بعيد الغطاس أو الدنح. فلفظة غطاس تعني نزول الرب يسوع في مياه نهر الاردن وقبول معمودية الماء من يوحنا المعمدان. ولفظة دنح، السريانية الأصل، تعني اعتلان الوهيته ورسالته وسرّ الله الواحد والثالوث. فمن بعد أن تعمّد، “وكان يصلّي، انفتحت السماء، ونزل عليه الروح القدس في صورة جسدية مثل حمامة، وجاء صوتٌ من السماء يقول: أنتَ هو ابني الحبيب، بكَ رضيت”(لو 3: 21-22). وفي المناسبة يجري في الكنائس تبريك المياه، كرمز ودعوة لتنقية النفس والقلب بكلمة الانجيل وبنعمة الاسرار المقدسة.
2. يذكّرنا العيد كعيد الغطاس بمعموديتنا، وهي الولادة الثانية من الماء والروح، التي وهبتنا الحياة الالهية بالانسان الجديد؛ وجعلتنا أبناء الله بالابن الازلي يسوع المسيح؛ وأدخلتنا في الكنيسة الشركة التي هي جسد المسيح؛ وصيّرتنا هياكل للروح القدس. فإذا بنا مشدودين إلى حالة “الشركة والمحبة”، بالاتحاد مع الله عمودياً، وبالوحدة مع جميع الناس أفقياً.
وكعيد الدنح، يذكّرنا بفدائنا بموت المسيح وقيامته. فالرب يسوع الذي مشى مع الخطأة، وهو بدون خطيئة؛ وقبِلَ من يوحنا معمودية التوبة، وهو بغير حاجة إليها، أعتلن لنا أنه ابن الله الذي صار إنساناً ليفتديَ الانسان. فتضامن مع كل الخطأة، حاملاً خطاياهم، ومائتاً على الصليب تكفيراً عنهم. فجرى من صليبه نبع الغفران الذي يغسل خطايا البشر، بنعمة سرّ التوبة في خدمة كهنة الكنيسة. إننا بذلك جماعة الغفران والمصالحة.
3. بحكم المعمودية، أصبح المسيحيون مشاركين في وظيفة المسيح المثلّثة. يشاركون في الخدمة النبوية، إذ يقبلون إنجيل المسيح بالايمان، ويُبشّرون به بالكلمة والأعمال، ويُندّدون بالشّر بجرأة، ويطبعون بقيَم الانجيل حياتهم اليومية، العائلية والاجتماعية، ويعيشون برجاء تجلّيات الله في تاريخ البشر.
أما الذين يُمارسون الحياة السياسية، فإنهم مدعوّون بحكم الخدمة النبوية لأن يستلهموا تعليم الانجيل في خياراتهم وقراراتهم وتصرّفاتهم، ولأن يسهموا في إجراء تحوّلات تبلغ إلى مجتمع أفضل، وأكثر إنسانية وعدالة.
ويشاركون المسيح في الخدمة الكهنوتية، إذ يتّحدون بذبيحة المسيح الفادي في قدّاس الاحد، مقدّمين ذواتهم وأعمالهم، أفراحهم وأحزانهم، قرابين روحية مرضية لدى الله. وعلى مستوى الحياة السياسية، يجعلون عملهم على كل المستويات، وتضحياتهم ونشاطاتهم، أفعالاً تسبيحية لله، لأنها تُكمِّل جمال عمل الخلق لخير كل إنسان وشعب.
ويشاركون أخيراً في الخدمة الملوكية، بمقدار ما يتغلّبون على الخطايا والتجارب المنحرفة من مثل التسلّط والظلم واستغلال الوظيفة العامة لمآرب خاصة، وسرقة المال العام، والرشوة؛ وبمقدار ما يُكرِّسون ذواتهم لخدمة الخير العام والعدالة والسلام(العلمانيون المؤمنون بالمسيح، 14؛ شرعة العمل السياسي، ص 19).
4. إنَّ الحالة البائسة واليائسة التي وصلت إليها الممارسة السياسية عندنا، حتى عطّلت القرارات على أنواعها، وتسبّبت بتفشّي الفساد، وبتصاعد الازمة الاقتصادية والمعيشية، وبتزايد الفراغات في الإدارات والمؤسسات بعدم ملء الشواغر وإجراء التعيينات، بسبب الحسابات الشخصية والفئوية، إنّما تدعونا للتطلّع إلى رجالات سياسية، يجمعون بين الايمان والحياة، ويُتمّمون واجباتهم منقادين لروح الانجيل، ولا يفصلون بين واجبهم نحو الدولة وواجبهم نحو الله، ويُحسنون الجمع بين موجبات العمل السياسي والمبادئ الاخلاقية، ويتفانون في سبيل الخدمة والخير العام، ملتزمين قضية السلام وحقوق الانسان وكرامة الشخص البشري ونموّه الاصيل والشامل.
5. عيد الغطاس أو الدنح الذي يذكّر بمعمودية يسوع واعتلان ألوهيته ورسالته الخلاصية، هو دعوة إلى المسيحيين ليعيشوا معموديتهم ويعلنوها إنساناً جديداً فيهم، يحوِّل الحياة العائلية والاجتماعية والوطنية إلى الجديد في الحق والخير والجمال. هذا ما عناه بولس الرسول بقوله: “أنتم الذين اعتمدتم بالمسيح، قد لبستم المسيح”. وهذا هو معنى وجودهم وغايته في لبنان وبلدان الشرق الاوسط منذ ألفي سنة، على ما علّمتْ جمعية سينودس الاساقفة من اجل الشرق الاوسط. المسيحيون مدعوون في هذا الشرق اليوم إلى أن يقوموا بنهضة روحية وأخلاقية واجتماعية ووطنية من خلال العودة إلى الانجيل الحي، بتوبة حقيقية تعني عيش الانسان الجديد الذي قبلوه بالمعمودية على قياس يسوع المسيح. إنهم بهذا يجعلون الحداثة إنجيلاً حياً في التاريخ، يلدُ إنساناً جديداً من شأنه أن يعطي ثمار الحداثة على المستوى الانسان الانسان والالتزام الاجتماعي والسياسي. ويتعاونون، حيثما وُجدوا، مع مواطنيهم المسلمين المستنيرين الليبراليين في بناء الدولة المدنية الديمقراطية القائمة على حقوق الانسان والمساواة في المواطنة وسيادة القانون وأسس العدالة والسلام. وهكذا يستطيع المسلمون والمسيحيون تحقيق “الربيع العربي الحقيقي” النابع من الداخل، لا المستورد من الخارج لأغراض سياسية واقتصادية واستراتيجية، التي غالباً ما تكون على حساب مصالحهم الوطنية. إنَّ الاصوليات الدينية، من اي جهة أتت، تحوّل الربيع الى شتاء، إذا لم تهدف إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية بمفهومها المذكور. كذلك العنف والارهاب ينذران بشتاءٍ مُدمِّر. وإنّا في المناسبة ندين إدانة شديدة سلسلة المتفجّرات في العراق التي أوقعت العشرات من القتلى والجرحى الأبرياء. نعزّي عائلاتهم، ونتضامن معهم في محنتهم، ونُصلّي من اجل أن يردّ الله قلوب الأشرار وأيديهم عن هذه الجرائم الاعتدائية على الله نفسه وعلى الانسانية جمعاء.
6. وبالنسبة إلينا في لبنان، المسيحيون والمسلمون مدعوون، على ضوء الانسان الجديد واعتلانه في الواقع الحياتي، للمحافظة على الكيان اللبناني الذي يؤلّفه المسلم والمسيحي معاً، والذي لا يقوم على العدد الديموغرافي، بل على ثقافتين مسيحية وإسلامية تشكّلان حضارة العيش الواحد المغتني بتنوّع التقاليد والقيم. هذا الكيان اللبناني يحفظه مبدأ المناصفة، وفقاً للدستور، الذي يعني بمفهومه التوازي العادل والمتساوي في المراكز والمسؤوليات، بعيداً عن تقاسم الحصص بين النافذين. فالنصفان المسلم والمسيحي المتعاونان والمتضامنان يشكّلان وحدة الكيان اللبناني. إن الارشاد الرسولي “رجاء جديد للبنان” يدعو في هذا السياق، لأن يُوَسِّع مسيحيو لبنان ومسلموه نطاق تعاونهم وتضامنهم إلى سائر البلدان العربية، حيث يواصل مسلموها ومسيحيوها تاريخهم الطويل، ويبنون معاً مستقبل عيش وطني وتعاون، يهدف إلى تطوير شعوبهم تطويراً إنسانياً وأخلاقياً، ويبلغون إلى تحقيق خطوة مماثلة للكيان اللبناني في بلدانهم”(فقرة 93).
7. إننا نرفع هذه الامنيات إلى المسيح الرب، الذي علّمنا بتجسّده ونور شخصه وكلامه وأفعاله، جمال الانسانية وعيشها خميرة في العجين، وملحاً في الطعام، ونوراً في الظلام. له المجد والتسبيح مع الآب والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين”.
بعدها ترأس البطريرك الراعي رتبة تبريك الماء.