بقلم: د. محمود حمد سليمان
ما إن نشبت الحرب العالمية الأولى حتى انقسم الشارع العربي إلى فريقين أساسيين:
– الفريق الأول، وجد الفرصة سانحة للتخلص من النظام التركي الجائر، بكل ما فيه من ظلم وقمع واضطهاد، امتد تاريخيًا إلى زمن بعيد، مستبشرًا في الوقت نفسه، بطروحات الحرية والديموقراطية والإستقلال القومي والوحدة العربية التي كان الغرب، دول الحلفاء، يبشر بها العرب ويعدهم بتحقيقها فور انتهاء الحرب وانتصاره.
– الفريق الثاني وقف موقف الحذر من طروحات الغرب ونواياه، فلم يصدقها ولم يطمئن إليها، لذلك تمسك بالسلطة التركية وبالأمر الواقع رغم ما فيه من جور وعنصرية وقمع مخابراتي، لا حبًا به بل خوفًا من الغرب وما يحمله من مشاريع ومخططات ومؤامرات محتملة، ولعل من الصعب جدًا أن تدافع عن شرّ قائم تفاديًا لشرّ أكبر منه وأخطر، وربما لذلك، رجحت كفة الفريق الأول شعبيًا ولا سيما في الحجاز والعراق وبلاد الشام.
في هذا المناخ الشعبي، أعلن الشريف حسين الثورة على الأتراك متحالفًا مع الفرنسيين. والانكليز، فانضم إليه معظم الشباب العرب في الجيش التركي، وتهافت إليه معظم المجاهدين من كل حدب وصوب… ليتشكل من هؤلاء وهؤلاء نواة أول جيش عربي حديث منذ عصور وعصور، ولكن بتوجيهات عسكرية غربية خطة وهدفًا وقرارًا وتسليحًا وتموينًا…
دفع الانكليز بالجيش العربي إلى الصفوف الأولى في المعارك التي تتالت من الحجاز إلى ما وراء حلب، أي إلى الحدود التركية حاليًا، ليتحمل بذلك معظم التضحيات الجمة والخسائر الفادحة في مواجهة الأتراك وحلفائهم من دول المحور.
ما إن وصلت الجيوش المنتصرة إلى الأراضي التركية، حتى توقفت الحرب، دون المساس بوحدة تركية وسيادتها، وأخرج الحلفاء من جعبهم ما كانوا قد اتفقوا عليه سابقًا فيما بينهم، وفي طليعة ذلك تقرير «كامبل بنرمان»، واتفاقية «سايكس بيكو»، و«سان ريمون»، و«وعد بلفور»… ضاربين بعرض الحائط الوعود التي أغدقوها على العرب في الوحدة والحرية والديمقراطية والاستقلال القومي، وغير ذلك.وهكذا نام الشريف حسين على أحلام الوحدة والحرية والعدالة.. ليستيقظ وقد وجد نفسه محققاً، من حيث لا يشعر ولا يريد، لمصالح الغرب وأهدافه الإستعمارية العليا..
لقد اتضح مدى ما يحمله الغرب للأمة العربية من خطط استراتيجية بعيدة المدى بما انطوت عليه من خبث ومكر ودهاء، لا نزال نعيش آثارها إلى يومنا هذا. فما هي أهم هذه الخطط والاتفاقيات التي أصر الغرب على تطبيقها بكل ما تحويه من دلالات وأهداف وغايات؟؟
أولًا، تقرير كامبل بنرمان (1907م): وهو خلاصة ما اتفقت عليه الدول الأوروبية في المؤتمر الّذي عقد في لندن وسمّي باسم رئيس وزراء بريطانية يومذاك. والّذي شاركت فيه كل من: بريطانية، فرنسة، بلجيكا، هولندة، البرتغال، إيطاليا، اسبانيا، ومما جاء فيه:
«ضرورة العمل على فصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة (الوطن العربي) عن جزئها الآسيوي عن طريق إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الّذي يربط آسية بأفريقية، ويربطهما معًا بالبحر المتوسط، حيث تقوم في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس، قوة صديقة للإستعمار (إسرائيل)، وعدوة لسكان المنطقة»([1]).
و أوصى المؤتمر أيضًا الدول ذات المصالح المشتركة بالعمل على استمرار وضع هذه المنطقة المجزأ والمتأخر وعلى إبقاء شعبها على ما هو عليه من تفكك وجهل وتخلف([2]).
ثانيًا، إتفاقية سايكس بيكو: وهي الاتفاقية التي نتجت عن لقاء وزيري خارجية كل من فرنسة وبريطانيا عام 1916م. وفيها تم الاتفاق على أن تكون حصة بريطانية كلًا من فلسطين والعراق، على أن يكون لبنان وسورية من حصة فرنسة بعد انتهاء الحرب، وعلى أن تقوم كل دولة من الدولتين بتقسيم حصتها إلى دولتين متباينتين في الادارة والنظم والمؤسسات، وغير ذلك، وهكذا نتج عن هذه الاتفاقية أربع دول جديدة، بالاضافة إلى دولة الحجاز وما أعقبها من إمارات متعددة، هي ما نسميه اليوم منطقة الخليج.
ثالثًا، وعد بلفور عام 1917م. وهو الوعد الّذي أعطى فيه وزير خارجية بريطانية بلفور (باسم حكومة جلالة الملكة) فلسطين وطنًا قوميًا لليهود، والّذي جاء تنفيذًا لما ورد في تقرير كامبل بنرمان، الآنف الذّكر.
ولقد وُضعتْ هذه الاتفاقيات والخطط موضع التطبيق الفوري والعملي لتبيّن لنا كمْ كان الشريف حسين بسيطًا وطيب القلب وهو يدخل إلى غابة ذئاب الغرب ووحوشه الضارية والتي لا تنطلق إلاّ من عنصريتها ولا تقيم وزنًا لمصالح الشعوب أو للقيم الانسانية الفاضلة.
إننا اليوم، ونحن نتذكر بهذه العجالة، الهجوم الغربي سياسيًا وعسكريًا وثقافيًا واقتصاديًا على بلادنا قبل حوالي المئة عام. ليَهُمُّنا أن نأخذ من تلك الحقبة التاريخية الدروس والعبر التي تضيء على ما يحيط بنا في هذه الأيام، وما يحوم في آفاقنا من هجمة متجددة للغرب على الوطن العربي وإن كان هذه المرة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية متحالفة مع دول الغرب نفسه وربيبتها إسرائيل التي كانت من نتاج الغرب نفسه في المرحلة السابقة.
صحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن الصحيح أيضًا أن أحداثه تتكرر، والويل لمن لا يعتبر ولا يتعظ، ولا يستفيد من دروس التاريخ وعبره.
خريطة جديدة… لشرق أوسط جديد:
إذا كانت معظم المخططات الغربية الاستعمارية قد بقيت طيّ الكتمان إلى أن حان وقت تنفيذها والعمل بها في بدايات القرن الماضي، فإن المخططات الاستعمارية الجديدة في بداية هذا القرن كُشف النقاب عنها بكل صراحة ووقاحة قبل البدء بتنفيذها وتطبيقها مغلّفة بالشعارات نفسها تقريبًا: إرساء الديمقراطية، والحريات العامة لشعوب الشرق الأوسط وتمكينها من الغنى والرفاهية والعيش بسلام، بعد إزالة الأنظمة الديكتاتورية القمعيّة التي تعيق حركتها وتقدمها، كما يقولون.
و لقد أفصحت الادارة الأميريكة ومسؤوليها، غير مرة، عن هذه المخططات وفي طليعتها: «مشروع الشرق الأوسط الجديد»، و«وثيقة راند»، بالاضافة إلى العديد من الدراسات التي أقرتها المعاهد الاستراتيجية الاميركية والمخططون لسياسة أميركا، والقائمة عمليًا على إحداث ما يسمونه: «الفوضى الخلاقة».. ومختصره ببساطة: إدخال الوطن العربي في صراعات طائفية ومذهبية وعرقية ومناطقية، وفي حروب أهلية تبدأ ولا تنتهي إلا بإعادة رسم خرائط جديدة لمنطقة الشرق الأوسط برمتها. ووفق «وثيقة راند»، فالمطلوب تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات أو أربعة، وسورية إلى ثلاث دويلات، والسعودية الى دولتين ، ثم مصر إلى ثلاث دويلات أيضًا.. والحبل على الجرار في ما يتعلق ببقية الأقطار، كالجزائر والسودان ولبنان، وغيرهم.
أما دلالات ذلك باختصار فتجزئة التجزئة وتفتيت المفتت، وتحويل المنطقة من حول إسرائيل إلى دويلات طائفية ومذهبية متناحرة ومتقاتلة لا تقوم فيها قائمة لأحد، ولا يبقى فيها قوة لقوي، باستثناء إسرائيل التي يبقى عودها أخضرًا إذ ذاك، كما تمنى ذلك «بن غوريون» في أوائل خمسينات القرن العشرين..
ولعله من المفيد أن نتذكر أن أول تصريح أدلت به «رايس» وزيرة خارجية أميركا عند بدء العدوان الشامل على لبنان في 12 تموز 2006 إذ قالت ما حرفيته:«اليوم بدأ المخاض لمشروع الشرق الأوسط الجديد».
إن قراءة معمقة لحيثيات المشروع الصهيو/ أميركي الجديد عبر الربط بين النظرية والتطبيق، ترشدنا إلى ملاحظة الأمور التالية:
1- إن الولايات المتحدة الأميركية تعتبر أن هيئة الأمم المتحدة التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، عكست، في حينها، موازين القوى الدولية يومذاك، وأنه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، لا بد من واقع دولي جديد يعكس ميزان القوى الدولية الحالي، الآحادي الجانب لمصلحة أميركا. وهو ما أكّده غزو العراق الّذي تمّ خارج إطار الأمم المتحدة، كما هو معروف. وما تأكّد أيضًا في التّعنّت الأميركي بعدم القبول بوقف إطلاق النار في أثناء الغزو الأخير للبنان، صيف 2006م، مما يدل على الاستشراس الأميركي في تحقيق هذه الرؤية، قبل فوات الأوان.
2- إن مشروع الحروب الأهلية العربية المدعوم أميركيًا بمختلف الوسائل، لن يقتصر الأمر فيه على اقتتال مسيحي – إسلامي، أو سني /شيعي، أو ما شابه، بل سيمر حتمًا بمراحل عديدة، ومنها أن يكون هناك اقتتال سني/سني، وشيعي/شيعي، وماروني/ماروني، ودرزي/درزي، وغير ذلك.
و من يقرأ خريطة القوى السياسية وتوزعها في العراق ، أو في لبنان، على سبيل المثال.. يدرك بالتأكيد أي فوضى «خلاقة» أو «بناءة»، تريدها أميركا للأمة العربية في المرحلة المقبلة.
3- إن من السذاجة المفرطة والبلاهة القاتلة، أن يحاول البعض الفصل بين ما يجري في الوطن العربي والعالم الاسلامي من حوله، عن الاطار العام للمشروع الأميركي، متوهمًا، أنه بهذا الفصل يحفظ رأسه، وينجو بجلده، متناسيًا أن إدارة المخطط واحدة وأهدافه واحدة، كما مشكلاته وأزماته، وردود الأفعال عليه… وإلا فليقل لنا هذا البعض كيف ينجو السودان بدون مصر؟ وكيف تحارب مصر بدون السعودية؟ وما دور سوريا بدونهما معًا؟ وهل يتخلص لبنان من «توطين الفلسطينيين» بدونهم جميعًا؟؟!.
4- إن المشروع الاستعماري الحديث لن تقتصر الحرب فيه على الناحية العسكرية فقط، بل هو مشروع متشعب إلى كل نواحي الحياة في الوطن العربي: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية.. وغيرها.
لقد لاحظنا أن أول مشروع قامت به الولايات المتحدة الأميركية، بعد إحتلال أفغانستان والعراق، هو تغيير برامج التربية والتعليم في كل من البلدين، كما أصبح القاصي والداني يعرف ما هي مطالب أميركا من السعودية ومصر ( حسني مبارك)؟؟ أوليس تغيير المناهج التربوية والثقافية يأتي في رأس الاهتمامات والأولويات؟؟
إن الوصول إلى شرق أوسط جديد وفق الصياغة الاستعمارية الصهيونية، يوجب صياغة إنسان عربي آخر، إنسانًا خاليًا من قيم الايمان والحق والعدل والجهاد والعفة والشهامة والتضحية، والشرف… وغيرها كثير مما تريده أميركا وإسرائيل، على جبهة الصراع الثقافي والفكري والديني والاجتماعي.
إزاء ذلك، ولكي لا تنطلي علينا الخدعة مرة أخرى، ولكي لا ينتصر علينا الغرب استراتيجيًا مرتين، فإن حركات النضال والجهاد، على المستوى القومي والوطني وفي العالمين العربي والاسلامي، ملزمة أن تأخذ بعين الاعتبار الأمور والحقائق التالية:
أ- إن الغرب يعرف مكمن الضعف والقوة فينا أكثر بكثير مما يعرفه الكثيرون منا، ولا نقصد هنا القوة العسكرية أو الضعف الاقتصادي أو ما شابه من هنا وهناك، بل إننا نقصد النهج الّذي نسير عليه أو نتبناه أو ننطلق منه في تحديد توجهاتنا وأهدافنا ومصالحنا.
ولا نرى أن هناك نهجًا أفضل من نهج الايمان الديني والعروبة، يمكّننا من تجميع الطاقات وحشد الامكانيات، وتعبئة الجماهير في مواجهة ما يحيط بها من مخاطر وتحديات..
إن الايمان الديني، لا يفجر الطاقات الكامنة في شعبنا فحسب، بل إنه يجعلنا على تواصل مع كل المؤمنين في العالم من مسيحيين ومسلمين، وعلى ضوء ذلك نستطيع أن ندرك لماذا وقفت الكنائس العالمية كلها مع قضايانا في فلسطين والعراق ولبنان، حتى أن مظاهرة رفض الحرب على العراق في الفاتيكان تجاوزت الستة ملايين نسمة، وقل الأمر نفسه في ملايين المسلمين بمختلف أعراقهم وجنسياتهم وبلدانهم.
و أما العروبة الحضارية، (ولا نقصد هنا الأنظمة) بما فيها من قيم ومثل عليا ومباديء وفضائل ومكارم، فمَنْ ظنها مناقضة للمسيحية لم يدرك شيئًا من قول السيد المسيح، عليه السلام: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، ومن توهم أنها معادية للإسلام كان كمَنْ يخلط بين وظيفة الدماغ ووظيفة القلب، فيتعصّب لأحدهما على حساب الآخر… وبالتالي لم يدرك شيئًا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا ذلّت العرب ذلّ الإسلام»([3]).
ومن المؤسف أن يكون الغرب قد أدرك، قبل، البعض منّا، معنى بقاء النهج القومي العربي المؤمن، سائدًا وشائعًا وقويًا، فعمل على تقويضه وإضعافه بمختلف الوسائل وشتى الأساليب، وإلا لماذا ترك هذا الغرب، تركية واحدة موحدة، قبل حوالي مئة عام مع أنها كانت عدوّه الأول، في حين إتّجه إلى الوطن العربي تفتيتًا وتجزئة، رغم أن العرب كانوا حليفًا أول له؟؟!
وقل الأمر نفسه في هذه الأيام، فلقد أصرت أميركا على إبقاء أفغانستان واحدة موحّدة، إذ جعلت «حامد كرزاي» البشتوني رئيسًا للدولة مع أن أغلب «البشتون» معادون لأغلب تحالف الشمال (حلفاء أميركا) في مواجهة طالبان البشتونية. أما العراق «العربي»، فلا أولوية تعلو على تمزيقه وتفتيته وتجزئته. ذلك لأنه من العروبة، والعروبة هي القلب. والقلب في إدراكهم ومخططهم يجب أن يكون مقطّع الأوصال والأعصاب والشرايين !!
و مع كل ذلك فالبعض لا يزال متمسكًا بالنهج الطائفي أو المذهبي أو الحزبي أو الاقليمي أو الفئوي، مع أنه في أحسن أحواله لا يستطيع، بهذا النهج، أن يحشد ربع طاقات الأمة وإمكانياتها، فضلًا عن زجّ هذه الطاقة الجزئيّة في مواجهة الطاقات الأخرى، كما قلنا، وفي ذلك مكمن الخطر وبيت الداء.
ب- إن الطلائع الثورية في الوطن العربي وحركات التحرر الوطني العربية، مطالبة قبل غيرها بتحديد الأولويات تحديدًا علميًا دقيقًا، ولا نرى أولوية تتقدم على أهمية الوحدة والتوحد، في هذه المرحلة، التي نواجه فيها أخطر وأشرس مشروع استعماري عبر التاريخ… ولنتصور ما ستكون عليه الصورة إذا ما نجح الأميركيون والصهاينة في مشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، كما يسمونه أحيانًا. إننا باختصار، سنكون أمام نفق مظلم، لا يعلم إلا الله، سبحانه وتعالى، نتائجه، ومفاعيله ونهاياته، ومع ذلك نرى بين الحين والآخر تنافسًا بين القوى والمؤسسات المناهضة للمشروع نفسه، في المظاهرات والأعلام والصور والأشكال والألوان… وربما كل طرف يدّعي ويزعم أنه وحده الأقوى ووحده الأكثر إخلاصًا وتضحية ومقاومة.
إن قراءة معمقة لكل الثورات في العالم، قديمًا وحديثًا، عندنا وعند غيرنا، ترشدنا إلى نقطة واحدة، لا غير: وهي أن هذه الثورات لم تنتصر وتحقق أهدافها إلا وكانت موحّدة في الرؤية والاستراتيجية والقيادة والحركة.
إن علم السياسة يؤكد لنا أن الجماهير عندما تواجه وتنـزل إلى ساحة المواجهة والتحدي، فإنها حتمًا منتصرة في النهاية.. ولكن الذي يغيب عن أذهان الكثيرين أن هذه الجماهير لا تنـزل إلى الساح ولا تواجه، وسط أحزاب وتنظيمات وحركات متنافسة متشاحنة وربما متقاتلة.
إن السؤال المشروع مطروح اليوم بإلحاح في الشارع العربي، لماذا لا تتوحد فصائل المقاومة في فلسطين؟؟ ولماذا لا تتوحد فصائل المقاومة العراقية الجدية والمخلصة؟ ولماذا لا تتوحد قوى المعارضة في مصر والاردن ولبنان وفي غير منطقة عربية وقطر عربي؟!.
بل ولماذا لا تقوم حركة شعبية عربية واحدة ينضم تحت لوائها كل الفصائل والتيارات والأحزاب حتى ولو اختلفت هذه القوى وتنوعت في مواقعها الفكرية وبرامجها ومصادر تمويلها وغير ذلك من التفاصيل، طالما نحن متفقون على الثوابت والبديهيات والمسلمات؟ أليس لنا في المنظمة الصهيونية العالمية عبرة نستفيد منها في حشد طاقات شعبنا وأمتنا وراء تحقيق الأهداف والغايات؟.
إن الواقع يفرض علينا ألا نكون أكثر البشر تمسكًا بالماضي وأقل الناس استفادة منه..
ج- إن الواجب الشرعي والقومي والوطني يفرض علينا أن نضع في رأس أولوياتنا واهتماماتنا قضية الصراع مع العدو الخارجي الّذي يستهدف مجتمعنا بكل ما فيه وما عليه بالدرجة الأولى، وأن نتصرف على أن ذلك هو الأهم والأخطر.. أفنختلف أمام هذا العدو على شكل النظام السياسي أو الاجتماعي القائم؟ وهو الّذي يريد تقويض هذا المجتمع حتى لا تقوم له قائمة؟!
في الشرع الاسلامي يأثم كل من يسكت على ظلم أو على حاكم ظالم. بل ويأمرنا الدين الحنيف بوجوب الثورة على الحاكم الجائر والفاسق، اللهم إلا عندما يكون المجتمع يتعرض لعدوان خارجي، فعندها فقط يأتي وجوب السمع والطاعة للحاكم ولو كان جائرًا، وظالمًا، وفاسقًا: «إسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشيّ كأن رأسه زبيبة[4]» أليس في ذلك إشارة واضحة إلى وجوب زجّ الطاقات كلها في معارك المصير والتحرير مع العدو الصهيوني والعودة إلى وجوب الصراع الداخلي أيضًا بعد التخلص من العدوان الخارجي؟؟
بناءً عليه، فإن قيام البعض بفتح صراعات داخلية مع الأنظمة أو الحكّام في أثناء العدوان الأخير على لبنان، هم، إذا أحسنّا النوايا، آثمون وجاهلون، إذا لم نقل عملاء وخونة.. عن قصد أو عن غير قصد.
من جهة أخرى، فإن تحليلًا دقيقًا لموازين القوى الدولية والعربية والمحلية في الوقت الحاضر، في هذا العصر بالذات، يرشدنا إلى ضرورة الابتعاد كليًا عن المعارضات المسلحة داخل المجتمعات العربية، وأنظمتها الحالية… ولنا في العمل المسلح داخل الجزائر، وما أفضى إليه من حرب أهلية بدأت ولا نعرف متى تنتهي، لنا في ذلك دليل واضح على أن النضال الشعبي لا يجب أن ينحصر في العمل المسلح.. وأن العديد من الثورات الشعبية في العالم انتصرت على أعتى أعدائها دون أن تستعمل بندقية ولا حتى مسدسًا واحدًا.. ولنا في انتصار الثورة في مصر وتونس في المدة الأخيرة خير دليل على ما نقول.. بينما انعكست الآية في ليبيا عندما لجأ الثوار إلى استعمال السلاح بعد انشقاق بعض العسكريين عن النظام. فاضطروا إلى الإرتماء في أحضان الغرب واستجدائه.. ونخشى أن ينطبق الأمر نفسه على بعض المعارضة في سورية واليمن .. إذ بعض المعارضين السوريين لا يخفون تحالفهم مع الصهاينة والأميركان، كما هو معروف.
د- إن المطلوب من حركات التحرر الوطني العربية، في هذه المرحلة، بل ومن كل المجاهدين والمثقفين والمفكرين، الابتعاد عن تصنيف الناس طائفيًا أو مذهبيًا أو عشائريًا أو مناطقيًا أو حزبيًا أو فئويًا، وما هو من قبيل ذلك. فإن فعلنا، نكون قد وقعنا في الفخ الأميركي الصهيوني المنصوب سلفًا.
إن المطلوب هو تصنيف الناس على أساس: مَنْ مع المشروع الأميركي الصهيوني؟؟ ومَنْ مع مشروع المقاومة والمواجهة؟؟ وعلى أساس الجواب على هذا السؤال، يجب أن تتحدد المواقف وتـُتخذ الاحتياطات وتتبلور الاجراءات، علمًا أنه لا سبيل لأن يكون المرء أو التنظيم أو النظام بين بين، فأولئك هم المنافقون، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، وقد لا يختلف إثنان أننا، في هذه المرحلة، نواجه مشروعًا استعماريًا غربيًا صهيونيًا متجددًا على نحو ما حصل منذ مئة عام، غير أننا نواجه هذا المشروع بأحلام مبعثرة، وآمال مشتتة، ومواقع وأوصال مفككة، ومتباينة، وربما متناقضة.
خلاصة القول: إن على قوى التحرر الوطني العربية أن تبقى مستعدة ومتحفزة بشكل دائم، وهي مطالبة بتوحيد قواها وفصائلها في مواجهة العدوان الخارجي من جهة، وبفضح القوى العميلة والرجعية، من جهة أخرى.
وهي إلى ذلك، معنية بإقامة معاهد التخطيط الاستراتيجي الشامل، ومراكز الأبحاث القومية، وصولًا إلى رسم استراتيجية شعبية عربية واحدة، تكون بمثابة المرجعية الأولى والأخيرة للنضال العربي.. تنير سبله وتضيء أمامه الطريق.. وتحشد ما استطاعت من قواه وإمكانياته.. سيما وقد ثبت فشل ما سمّي يومًا بعملية السلام.. كما ثبت عجز الأنظمة التي تبنت مشروع السلم الصهيو/أميركي. فلا هي استرجعت الحقوق العربية، أو حافظت عليها، ولا هي استطاعت تحقيق آمال الأمة في الحرية والعدالة والوحدة والتقدم والديمقراطية.
إن ما شجعنا على تقديم هذه الصورة، هو الاشكالية الحاصلة اليوم في الوطن العربي، والواضحة لكل ذي بصيرة، وملخصها أن الجماهير العربية، بشكل عام، أكثر وعيًا من حكامها.. بكل ما سيتمخض عنه ذلك، في المستقبل، من نتائج ووقائع ومتغيرات.. وهذه فكرة طرحناها في العام 2006م. وجاءت الثورات الشعبية اليوم لتؤكد صحتها وصوابيتها..
د. محمود حمد سليمان
عكار العتيقة . لبنان