عائلات تحت خط الفقر ومنازل تفتقر الى ابسط مقومات الحياة..
عائلات الحيّ: نرفض الاخلاء الا بحل عادل وشامل..
أناس في السماء وأناس في الجحيم.. بين السماء والجحيم مسافة مليون سنة ضوئية هي الفارق بين أحياء طرابلس وحيّ “التنك” في الميناء كل كلمات البؤس والشقاء قد لا تجسد حقيقة ما يقارب المئة والثمانين عائلة الذين يقطنون في ما يشبه المنازل ولا تشبه الخيم وسط بؤرٍ، في حيّ مكتظ، مياه الشفة اذا تأمنت تسري جنباً الى جنب مع المياه الآسنة والقذارات..
في ظروف صحية فائقة الرداءة، تعيش عائلات خارج الزمن لعلها لم تدخل بعد القرن الواحد والعشرين في لبنان الحضارة والنور والعلم…
لبنان الذي يتحدثون عنه تفتش فلا تجده في هذا الحيّ الاّ في صور المرشحين الذين يذكرونك أنك بالفعل على أرض لبنانية وليست في مجاهل أفريقية أو في بلاد المجاعة..
لا يخطر على البال أن في لبنان حيّ بمثل هذا المستوى من الحياة وبمثل هذا الفقر رضوا بالهم حتى الهم لم يرض بهم.. قدرهم أنهم فقراء وأنهم يسعون وراء لقمة العيش ولقمة العيش تهّرب من أمامهم..
شوارع الحيّ ترابية ومستنقعات ومرمى للنفايات والقذارات وللمياه النتنة ومياه الجور الصحية وعلى جوانب الشوارع قامت منازل بعضها يعود لأكثر من خمسين عاماً هي عبارة عن جدران من الخفان مسقوفة بـ “التنك” تتحول هذه المنازل الى أفران حقيقية صيفاً والى بحيرات مياه شتاءً… في غرفة واحدة ينام عشرة أولاد.. أما عن غرفة المطبخ فحدث ولا حرج قد لا تجد مثيلاً لها في العصور البدائية..
يتحدثون عن خط الفقر في حيّ “التنك” لا خطوط للفقر، بل ان الفقر تحت خطوط الفقر بدرجات.. مدخولهم الشهري لا يكفي لسد رمق طفل منهم فكيف يغفو جفن مسؤول في هذه الدولة ويرتاح ضميره وفي لبنان الحضارة حيّ من “التنك”!!.. هو نموذج للعهر السياسي المتمادي في هذه البلاد..
حين أنشأوا هذه المكونات المسماة منازل قبل خمسين عاماً كانت الارض مشاعاً هجرهم الفقر الى هذه البقعة المعروفة ببساتين الميناء قبل أن تأخذ اسم “التنك” نسبة لأسطح “التنك” على مد النظر وحين حصل الضم والفرز باتت هذه البساتين وما عليها موزعة بين عدة ملاكين والذين استملكوا هذه البقعة سارعوا الى القضاء اللبناني لاستعادة ما استملكوه بقدرتهم المالية ولأن الأغنياء يعيشون في أبراجهم العاجية فلن تنبض في قلبهم مشاعر الشفقة والرحمة تجاه فقراء لا سند لهم ولا ظهر إلاّ رحمة الله حتى رحمة الله بالكاد يحصلون عليها، الا بتوسط من رجل دين ظن أنه يستطيع أن يحتكر الله والله رب العالمين..
لا ندري كيف تصدر أحكام قضائية “باسم الشعب اللبناني” تقضي باخلاء هذه المنازل التي ستؤدي حتماً الى تشرد عائلات بأكملها هي في الاساس لا تجد لقمة عيشها فكيف ستجد المأوى بعد التشرد؟؟..
هل يقبل الشعب اللبناني الذي تصدر باسمه الاحكام أن تتشرد 180 عائلة واذا رفضوا الاخلاء فمصيرهم السجن وعشرات الملايين من الليرات غرامات مالية لا يملكون منها ليرة واحدة يقول ماجد برنار: عن كل يوم تأخير في الاخلاء عليه أن يسدد 30 ألف ليرة، أي تسعمائة الف ليرة في الشهر فالقاضي كان رحيماً لان أحكاما قضائية أخرة قضت بتسديد 11 مليون ليرة وسجن 3 أشهر لان العائلة تحتل عقاراً لا تملكه منذ أكثر من خمسين عاماً وفجأة أصبح للعقار مالك!!..
قبل استشهاد الرئيس رفيق الحريري أثيرت هذه القضية فسارع وفد من الاهالي لزيارة الرئيس الحريري حينها وشرحوا له القضية وبعد عرض المشكلة برمتها صدر عن مجلس الوزراء قراراً باخلاء المواقع المذكورة في حيّ “التنك” لكن بشرط واضح ورد في محضر جلسة مجلس الوزراء الواقع بتاريخ 5- 4- 2001، بقرار رقم 11، ورقم المحضر عشرين وبعنوان الموضوع الموافقة على اخلاء مواقع الاشغال في منطقة الضم والفرز لبساتين طرابلس والميناء على ان يصار اعتماد نفس القواعد المقررة في مؤسسة “اليسار” للتعويض على اصحاب هذه المنشئات والمساكن..
لكن أين هي التعويضات؟ في ذلك الوقت تم تأجيل القضية الى حين تأمين المساكن البديلة ودفع التعويضات المناسبة التي تؤمن حياة لائقة للعائلات فلماذا اليوم ومن جديد تثار هذه القضية؟؟..
سكان الحيّ أجمعوا كبيرهم وصغيرهم في نداء الى كافة المراجع المسؤولة بدءاً من رئيس الجمهورية الى رئيس مجلس النواب الى رئيس الحكومة وكافة الوزراء وبشكل خاص الى نواب طرابلس السابقين والحاليين أعلنوا فيه أنهم يرفضون اخلاء المساكن حتى ولو اضطروا الى الاستشهاد في سبيلها الا بعد الوصول الى كامل الحقوق التي نص عليها القرار الوزاري المذكور ابان رئاسة الرئيس الشهيد رفيق الحريري أسوة بالمناطق اللبنانية التي أخليت لانها مناطق محظوظة بمراجع تسميت في الدفاع عنها.
ويقول أهالي الحيّ رضينا بعيشة الذلّ في منطقة تخجلون من ذكرها أنها من المناطق اللبنانية لكن مصالح الكبار قضت بأن تقضي على آخر معاقل فقراء هذا الوطن ونؤكد ـ يقول سكان الحيّ ـ أننا متمسكون ببقائنا بمنازلنا أو ما يسمى بالمنازل ولا بديل لنا عنها الا السجون ففي السجون قد نتقي حرّ الصيف وبرد الشتاء. مع الاشارة الى ان جميع سكان الحيّ ملتزمون بعدم الاخلاء افرادياً الا بعد الوصول الى الحل الشامل للمنطقة بكاملها..
محمد محمود ياسين (71 سنة) ولد في الحيّ كان يعمل بائع خضار متجول ووالده كان يعمل في المرفأ عتالاً، يقول: الذي أتى بنا الى هذا الحيّ هو الفقر، أنا ولدت على هذه الارض التي كانت مشاعاً وبالامس أتوا لجرف منازلنا لكننا وقفنا صفاً واحداً رفضنا ذلك ولو على أجسادنا. ومنذ عدة سنوات حاولوا أيضاً تشريدنا فذهبنا الى الرئيس رفيق الحريري وقلنا له نحن فقراء يريدون تشريدنا ونعرف انك تساعد الفقراء فهل تقبل بتشريد عائلاتنا وحينها وعدنا بأنه لن يتركما وسيقف الى جانبنا وكان القرار الوزاري الذي قضى باعتبار هذا الحيّ مثل حيّ الاوزاعي والضاحية الجنوبية، وصرف التعويضات والتعامل معنا كما تعاملت مؤسسة “اليسار”..
أبو مصطفى أحمد الحسن قال: وعدونا بمساكن شعبية في البحصاص وبتعويضات من الهيئة العليا للاغاثة، نحن لن نترك هذه المنازل الا ضمن حل شامل وبدفع التعويضات اللائقة واذا اعتقدوا ان بمبلغ 3 ملايين ليرة وحتى ولو كان عشرة الاف دولار للعائلة فلن نرضى لان هذه المبالغ لا تؤسس حتى لعامود منزل.
حليم ابراهيم حليمة قال: منذ يومين وصلت الينا عناصر من قوى الامن الداخلي في مخفر الميناء ومعهم قرار بازالة 14 منزل فقامت الحارة كلها وتضامنت معنا لاننا نرفض أي حل دون حل شامل لـ 240 منزل.. وسأل حليم: هل يستطيعون ان يدخلوا مناطق اخرى لا نريد تسميتها الان بالشكل الذي دخلوه الى هذا الحيّ، لقد انتخبنا زي ما هي ويريدون أن يقلعوننا من أرضنا زي ما هي..
عبد الرحمن عكاري قال: يريدون منا أن نذهب الى مراجع أخرى لنطالب بحقنا طالما ان نواب منطقتنا ليسوا معنا، نحن ندفع محاضر ضبط الكهرباء وفوجئنا أن كل عائلة محضر ضبطها بمليوني ليرة ونحن نعيش الفقر والعذاب اذا لم يتجاوب نوابنا معنا فاننا سنشكل وفداً لمراجعة البطريرك صفير والسيد حسن نصر الله..
خيرية جارودي قالت: نعيش في هذا المنزل مع عشرة أولاد وحين نستحم في هذا الحمام تطوف علينا المجاري الصحية، في الشتاء تتسرب المياه عبر التنك والتوتياء وفي الصيف الحرارة “تسلخنا” وبعد ذلك يريدون تهجيرنا!!…
قضية حياة أو موت
يعتبر ماجد برنار أن قضية حيّ “التنك” هي قضية حياة أو موت “نحن لا نخشى شيئاً لاننا لا نملك شيئاً سوى هذه المنازل التعيسة وقضيتنا هي قضية حق لاننا ولدنا منذ سنين فير حزام البؤس هذا، ولم نجد يوماً من يتطلع الينا، لم نلحظ يوماً ان حكومة من الحكومات التي تعاقبت فكرت بانصافنا أو فكرت بانصاف شعبها بايجاد فرص عمل وتأمين مساكن لائقة، ألسنا مواطنون أوليس لنا حق المواطنية على الدولة طالما نحن نقوم بالواجبات المفروضة علينا فأين حقوقنا؟.. لم يسألونا حين حصل الضم والفرز وكأننا رعاع نباع ونشرى وحين امتلك بعض الاثرياء هذه المنطقة راحوا ينددون بنا ويريدون تشريدنا، نحن كل ما نطلبه هو حل شامل لهذه القضية وتعويضات عادلة ونحن تحت سقف القانون لن نكون فوقه لكن حين تكون المسألة حياة أو موت فأما حياة عزيزة وأما موت بعزة لان الدفاع عن العائلة والبيت هو شأن مقدس ونحن لن نقف بوجه القانون لكن ليكن القانون عادلا معنا”..
هل يعرف نواب طرابلس بهذا الحيّ؟
ان قضية حيّ “التنك” هي قضية انسانية بامتياز والسؤال الذي يطرح نفسه هل كلف نائب من نواب طرابلس السابقين والحاليين نفسه عناء تفقد هذا الحيّ والدخول الى أشباه المنازل؟.. هل استطاع أن يدخل هذا الحيّ ليجلس على أشباه مقاعد؟.. ليستمع الى معاناتهم… أحد المرشحين منذ عدة سنوات زار الحيّ ليس بقصد التفقد وانما لتفقد أملاكه العقارية في الحيّ ففوجئ بالحياة الخارجة من عمق البدائية وبالبؤس الذي تعيشه العائلات فكانت ردة فعله العفوية: “والله لو جبت كلبي لهون ما بيقبل يعيش هالعيشة”..
في هذه العفوية التي صدرت عن ذياك المرشح ما ينبئ بالواقع الأليم لحيّ تعيس من أحياء مدينة طرابلس… يفاخرون بثرائهم وبحياتهم المخملية ويهدرون ألوف الدولارات من أجل كرسي نيابة وهناك من لا يجد قوت يومه وينام في سرير يضمه الى عشرة أولاد أقدام الى الرؤوس ورؤوس الى الاقدام في غرفة قد لا تتسع لزوجين وربما غرفة هي أقل من حظيرة يأباها من يتحدث بالانسانية وبالعلوم الدينية من مختلف الطوائف والمذاهب ولا ندري كيف يغفو أولئك وهناك من ينام جوعان محكوم بالفاقة والعوز ويقلقه المصير…
تحقيق دموع الاسمر