نظَّم “مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية” ندوةً لمراجعة كتاب الدكتور فواز طرابلسي “تاريخ لبنان الحديث: من الإمارة إلى اتفاق الطائف” وتحدث فيها الدكتور سعدون حماده والدكتور يوسف معوض والمؤلف، في حضور أساتذة جامعيين وإعلاميين وطلاب ومهتمين.
بداية ألقى الدكتور رغيد الصلح كلمة المركز فرأى أن طرابلسي يسعى الى تقديم صورة دقيقة وامينة للعلاقة المركبة بين الدولة والمجتمع في لبنان بما يساعد القوى ذات المصلحة في بناء الدولة على وعي دورها وتلمس الطريق الذي يقودها الى تحقيق غايتها، في حين تجنح المنهجية المهيمنة في كتابة التاريخ، كما يراها المؤلف، الى اغفال طبيعة هذه العلاقة. وأضاف الصلح أن التصويبات في كتابة طرابلسي لتاريخ لبنان توفر مداخل مناسبة لمتابعة تاريخ لبنان الحديث من خلال منظور شامل ومتوازن يلتقط كافة العلامات والمحطات المهمة التي تبرز على الطريق التي سار عليها اللبنانيون من الامارة الى اتفاق الطائف. كذلك اعتبر الصلح أن الكتاب الذي اعتمد هذه المنهجية وثيقة هامة جديرة بان تساعدنا على فهم حالنا اليوم والتنبؤ بما سيأتينا به الغد.
حماده
ثم تحدث الدكتور سعدون حماده فرأى أن طرابلسي يعلق أهمية أساسية ومطلقة على دور التحول الإقتصادي الحديث وأثره في البنية الإجتماعية وما أدى إليه من صراع بين الطبقات، ويعتبر ان العامل الإقتصادي هو من اهم العوامل التي ساهمت في كل ما عرفه لبنان من نزاعات وصراعات وأحداث.
وأشار حماده إلى أن القسم الثاني من الكتاب ابتداءً من الفصل الرابع هو في الواقع تقرير تاريخي وعلمي فيه من الغنى والدقة والشمول والعمق ما يجعل منه بامتياز خلاصة وافية تسجيلية للتطورات المدينية والثقافية والإقتصادية والإجتماعية والسياسية للفترة التي يتناولها، وبخاصة من عهد المتصرفية حتى العهود الأولى للإستقلال. وقال إن الكاتب يعرض في هذا القسم بأسلوب سهل وسلس تداخل العوامل المختلفة من الإزدهار الإقتصادي الذي عرفته المتصرفية إلى تراجع تجارة الحرير وما أعقبها من هجرة والأفكار السياسية الناشئة في تلك الفترة.
وأشار حماده إلى ثغرة تلازم الكتابة في التاريخ اللبناني ألا وهي حصر التاريخ اللبناني العام في بقعة جغرافية محدودة وقصر اهتمامه على جماعة سكانية محددة من أبنائه مما يفرغه من مضمونه الوطني العام، مشددّاً على أن تاريخ لبنان ليس فقط تاريخ جبل الشوف، بل هو تاريخ المناطق التي يتألف منها اليوم بما فيها جبل عامل والبقاع وجبل لبنان وجبل الدروز والمدن الساحلية. ولفت إلى أن التاريخ اللبناني لم يقتصر على نزاعات دامية بين عشائر وطوائف ولا على عاميات ذات طابع اقتصادي او اجتماعي، بل شهدت المناطق اللبنانية حركات ثورية ذات طابع سياسي وأهداف مطلبية شكلت إرهاصات لوطنية لبنانية لاحقتا وسعت إلى التخلص من حاكم أجنبي مكروه. وذكر محطات غير معروفة في التاريخ اللبناني منها ثورة “أولاد العرب” في العامين 1658 و1660 حين اجتمعت الطوائف اللبنانية ضد العثمانيين، والثورة اللبنانية العامة في العام 1686 واستمرت حتى العام 1710.
وقال حماده إنَّ تفسير طرابلسي الشخصي لأسباب حرب ال1975 يثير أكثر من ملاحظة، إذ يعتبر أن تحالف رجال المال والثلاثين أسرة المسيطرة على الإقتصاد مع الإقطاع السياسي هو من أهم اسباب الحرب وأن الدخول السوري والإجتياح الإسرائيلي حصلا بغطاء دولي وعربي بهدف القضاء على المشروع الإصلاحي للحركة الوطنية المدعوم من البندقية الفلسطينية. ورأى حماده أن معظم أدوات الحرب اللبنانية من مقاتلين واسلحة وذخائر وأوامر وتخطيط كانت أجنبية المصدر، مشيراً إلى أن عجز الدولة من حيث هي مؤسسة أمنية وسياسية سمح لجماعات مسلحة متباينة أن تجتاح لبنان تحت شعارات شتى باسم التحرير والإصلاح والتقدم.
معوض
ورأى الدكتور يوسف معوض أنَّ كتاب “تاريخ لبنان الحديث” يمثِّل وجهة نظر وهو صراع بين المناضل والمؤرخ في شخصية طرابلسي، وقال إن المؤلف لم يكتب كرجل علم Scholar)) فحسب أو كشاهد، بل انطلق من مقاربة انخراطية وسياسية انطلاقاً من الخمسينات، مشيراً إلى أن لا يمكن عزل الكتاب عن موقع طرابلسي كمناضل.
واعتبر معوض أن الكتاب يشكل محطةً أساسية ويأتي بعد أربعين عاماً على صدور كتاب كمال الصليبي عن تاريخ لبنان الحديث، ولفت إلى أن طرابلسي يعتمد على البعد الإقتصادي – الإجتماعي أكثر مما يعتمد على التفسير الثقافي. وقال إن أسباب الحرب ومقدماتها تعود في نظر طرابلسي إلى تعزيز البنية الإحتكارية لرأس المال وللإقتصاد عامة، وإلى وقوع الصناعة تحت سيطرة رؤوس الأموال الأجنبية. وأكد أن طرابلسي يُدخِل علم الإقتصاد إلى جوهر التاريخ لأنه شرح كيف أن العوامل الإقتصادية تؤسس للتشنجات الإجتماعية مما يؤدي إلى العنف، فلم تعد الصراعات على الساحة اللبنانية صراعات طوائف وإيديولوجيات دينية فحسب.
ولفت معوض إلى أن المؤلف أدخل الإقتصاد إلى كتابة التاريخ إلا أنه لم يعطِ لصراع الطبقات تلك القدرة الحصرية على التفسير، وإن كان ما زال مؤمناً بعض الشيء بالسببية التاريخية. كذلك قال معوض إن طرابلسي أعطى الديموغرافيا حقها التاريخي في محاولة التفسير، وإن كتاب “تاريخ لبنان الحديث” لم يأت على ذكر الطوائف. وسأل عما إذا كان طرابلسي عدل موقفه لينادي بلبنان أولاً أسوة بالعديد من أخوة له في النضال السابق أم هل ما زال على العهد إلى جانب المستضعفين في الأرض؟
طرابلسي
طرابلسي من جهته قال إن الكتاب يشمل تاريخ لبنان الحديث وبخاصة الفترة الممتدة من القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين، واعتبر أن الكتاب جهد أقصى طموحه استفزاز جهود أخرى لكتابة التاريخ، لافتاً إلى أنَّ كتابة التاريخ تراكمية ومتمنياً المزيد من التصحيحات لكتابه بناءً على أبحاث أكثر دقة في تاريخ لبنان.
وقال إن لا يضيره القول إن في الكتاب مقاربة ماركسية للتاريخ، لافتاً إلى أنَّ لا يمكن أن يُكتب تاريخ عادل إذا لم تُسهم فيه روافد من مختلف المنهجيات. وأشار إلى أن التاريخ اللبناني لا يزال حتى اليوم تاريخ طوائف لكنه مزور لأنه يكتب من وجهات نظر كل طائفة على حدة.
وأضاف أنه حاول أن يبين في الكتاب بعض ما قدمه اللبنانيون بعيداً عن الطوائف من دون إنكار ما قدمته الطوائف، وأنَّ الكتاب سعى إلى سدِّ بعض الثغرات، مشدداً على أن هناك فترة طمست بالكامل هي تلك الممتدة من العام 1964 إلى العام 1974.
واعتبر طرابلسي أن الطوائف هي وسائط للتوزيع الإجتماعي وليست فقط أدوات للصراع على السلطة. وقال إن الكتاب يزعم أنه يمثل وجهة نظر إضافية تقول إن بعض الإحتقان الطائفي يزول إذا عولج الإحتقان الإجتماعي، بدليل مراجعة الفترة الزمنية الممتدة من العام 1820 حتى العام 1860، إذ شكلت انتفاضة الفلاحين منعطقاً للعبور إلى نظام جديد للبنان بعد سلسلة من الأحداث الدامية. وأكد أن الطوائف لا تتعاطى بالإقتصاد بل بتوزيع الثروة، لافتاً إلى ان لا أحد يطرح كيفية توزيع أفضل للثروة. وسأل عن كيفية بناء دولة سلمت اقتصادها لأفراد وهي مديونة لمصارف لا تفرض عليها ضرائب على الأرباح، وعن كيفية بناء دولة سلمت التشريع للطوائف وبالأخص في الأحوال الشخصية.
وأعرب طرابلسي عن اعتقاده أن هناك تخوفاً في لبنان من المساس في موضوع تاريخ الإنتقال السكاني والديموغرافي، وبخاصة النزوح من الشمال إلى الجنوب وتحول مناطق وأُسَر وبلدات بكاملها من هوية طائفية إلى أخرى، مشدداً على أننا كلبنانيين لا نملك تاريخاً للأطراف اللبنانية لان التاريخ هو تاريخ المركز.
واعتبر أن لا تعارض بين لبنانيته وانتمائه العربي وقال إنه لم يدع مرةً إلى وحدة عربية شاملة، لافتاً إلى الهويات المتعددة للفرد وعدم القدرة على فرض خيار الإنتماء إلى هوية واحدة على الإنسان، خاصة في عصر العولمة.
وحصل نقاش حول كتابة تاريخ لبنان فشدد أحد الحاضرين على ضرورة كتابة التاريخ اللبناني انطلاقاً من عام 1920 عندما تأسس لبنان الكبير تفادياً للنزاع والجدل حول الأحداث التاريخية التي حصلت في المناطق اللبنانية كافة قبل ذلك التاريخ، لأن لبنان الذي نعرفه بحدوده الحالية لم يكن قائماً قبل الأول من ايلول 1920.
وفي رده رأى طرابلسي أن الحل ليس بلجنة من مؤرخين لكتابة التاريخ اللبناني بل أن المشكلة تتمثل في محاولة فرض هوية واحدة على اللبنانيين، واشار إلى المحاولات التي حصلت لخلق أساطير مؤسسة للتاريخ اللبناني.